( رأيت ما لم تره العين )
عندما يكون الليل ساكنا تكمن فيه قمة الهدوء حتى تعتقد بأنك وحدك الغامس وسط هذا الظلام
الدامس .
وفي تلك الليلة ذات البرد القارس أفاقني فجراً صوت ذلك المزعج ( المنبه البائس ) فبدّل
صمت الغرفة إلى ضجيج حتى ظننت أنني قرب أحد الكنائس .
ثم جاء الصراع بيني وبينه ومحاولات عدة للتغلب عليه لكي أكمل غرقي في نوم ٍ هادئ ، حينها
أغمضت عيناي واضعاً لحافي على جسدي ولم أسمح لبرد تلك الليلة أن يتسلل إلى فراشي
واتكأت بظهري على وسادتي إيذاناً باستسلامي لذلك اللعين .
ولكن سرعان ما انتهزت تلك الفرصة بصمته حتى أكملت غرقي في ذلك النوم الشتوي . حينها لم
أعرف كيف خرجت من منزلي وكنت مستعجلاً في أمري أرتب أشيائي داخل حقيبتي فاتجهت
للمطار وعند وصولي انطلقت للبحث عن أرقام الرحلات وأماكن انتظارها فوجدت فتاة شقراء يبدو
عليها زينة ما رأيت وما لم أرى .
ما جذب انتباهي لها هو كل شيءٍ فيها بين شعر ٍينساب على كتفيها وما بين عينين زرقاوين
كأنهما بحر , قد تبحر بنظراتك حتى لا تكاد أن تمل ، وما بين مبسمٍ ما رأيت أجمل منه ، وجسمٍ
رشيق يعكس جمالاً عجيبا ، تتميز بكبرياءٍ وفخامة ، غرورٍ وأناقة .
لا أستطيع أن أصفها أكثر من ذلك وربما لو فعلت سأصل إلى حد الحماقة .
الغريب في الأمر أنها متمعنة بالنظر إلي رغم أنني لم أشعرها بنظراتي كمعجبٍ بها بل إنني أخفيته
داخلي وإذا هي تنادي ( أديب لو سمحت )
صدمةٌ كبرى !! وكيف لتلك أن تعرفني ؟ فقلت أنا !؟ قالت : أوليس اسمك أديب !؟ قلت : بلى . ماذا
تريدين ؟ قالت : هل لي أن أساعدك . قلت : بماذا ؟ قالت : كأنك تبحث عن شي ما ! فقلت : ومن
أنتِ ؟ وكيف تعرفيني ؟ فضحكت وقالت : سأخبرك فيما بعد ، ولكن هل لي أن أسألك إلى أين
رحلتك ؟ قلت : إلى ( أم الدنيا ) قالت : أتعني القاهرة . قلت : نعم أعني مصر . ثم تبسمت
وقالت : ذاك هو مكان انتظار الرحلة . فقلت لها قبل أن أغادر هل لي أن أسألك كيف تعرفيني ؟
فضحكت وولت مدبرة . حينها قلت لنفسي لعل التكنولوجيا تلعب دورا في هذا باختراع جهاز لمعرفة
الأشخاص . ثم اتجهت إلى مكان الانتظار وتم الإعلان : (( على جميع الركاب الصعود للطائرة ))
فدخلت المقصورة وأخذت مقعدي المخصص وإذا بتلك الفتاة بجواري فانبسطت وانزعجت وفيما بعد
اندهشت حيث أن من كان حولي يلقي التحية لتلك الفتاة ويبادلها الابتسامات من شباب وبنات
كبار سن وأمهات .
أقلعت الطائرة فأبلغتني تلك الفتاة بأنها تمتلك جناح ( الأفق ) بالطائرة ودعتني لتناول الحساء يتبعه
الغداء ، كما أخبرتني بأنها قدمت دعوة لكل من على متن الطائرة بل وقالت بأنها منحتهم قصوراً في
شارع الجامعة العربية وطريق العليا مع تمويل مادي لكل منهم ( تحسين أوضاع ) وبما أنك يا أديب
جاري في هذا المقعد فلك نصيب الأسد من الأعطيات . فقلت بيني وبيني ربما مجنونة تلك الفتاة.
ثم قلت: من أنتِ ؟ قالت : أولم تعرفني إلى الآن . قلت : وكيف لي أن أعرفك ؟ فما اسمك ؟ قالت :
اسمي دنيا . وعليك أن تلبي الدعوة . قلت : سأفعل وبكل سرور. ثم تصنمت على كرسيي أترقب
الجميع وإذا بهم يصعدون للأفق إلى الست دنيا . فانتهضت لألحق بهم وكنت آخر من صعد
فاندهشت من المنظر وكأني في أحد القصور الفاخرة وإذا بنانسي عجرم تغني ( آه ونص ) والست
دنيا توزع الهدايا والقصور على الجميع مع مفاتيح السيارات الفارهة كذلك توزع الشراب وهي تقول
هذا الذي يذهب العذاب .
صدمة أخرى وكبرى قررت أن أنسحب ولكن نفسي ( الأمارة بالسوء ) صرخت بداخلي وقالت ( أموال
قصور فرفشة نانسي دنيا ) فترددت وانتظرت حتى وصلني الدور وإذا بدنيا مبتسمة تهلي وترحب
وتقول أهلا بجاري فأنت المقرب إلى داري بقصر ٍلك سيكون بجواري فتفضل خذ من شرابي . فقلت
عفوا أنا لا أشرب هذا . قالت : ترفض ضيافتي . قلت لا أرفضها وها أنا قمت بتلبية دعوتك للغداء .
قالت إن لم تصبح نديما ستحرم من ........ ولم تكمل حيث أن قائد الطائرة أعلن بأن على جميع
الركاب التزام أماكنهم وربط الأحزمة لخلل تقني بمحرك الطائرة ربما يؤدي انفلات في السيطرة
فعلى الجميع التزام الهدوء .
حينها هرع الجميع إلى مقاعدهم وأنا أولهم ونانسي مازالت تغني ( آه ونص ) . تم الفرار بكل رعب
وترقب فغضبت دنيا وأعلنت للجميع أن من يتركها تسحب منه كل ما أخذ ( لا قصور ولا فلل ولا
أموال ) فلم تجد من يسمعها .
وصلنا إلى مقاعدنا وذكر الله جل وعلا هو الصوت العالي من الجميع في هذه الفترة فقلت لنفسي
يال تلك الأنفس يال ضعف الإنسان .
بعد ذلك جاءت دنيا إلى مقعدها بجواري وأنا مرتعب جدا من أن تسقط الطائرة وأننا ولا شك نحتضر
الآن كلها مسألة دقائق ونفارق الدنيا . فنظرت إليها وكأن هذه النظرة عن سابقاتها قد تغيرت أو كأن
هذه الفتاة ليست تلك . فسألتها بكل أمانة من أنتِ ؟ فقالت : صحيح بأنك لم تعرفني للآن . قلت
هو ذاك . قالت وكيف تراني الآن؟
فأطلت النظر إليها فقلت : لا أخفيك سراً أراك الآن ليس كما كنت أراك قبل الآن بل أراك فتاة مزيفة
ليس شعرك المتدلي على وجنتيك إلا مستعاراً ووجهك شاحباً وكل ما فيك خانقا . فقالت : أرأيت
كيف تبدلت نظرتك سأقول لك بأني أنا ( الدنيا ) كنت تنظر إلي بنفسك ( الأمارة بالسوء ) والآن
تنظر بعقلك لتنال ( حسن الخاتمة ) قبل أن يذهب كل منكم إلى خالقه . نعم أنا الدنيا ( جمال زائل
وقصور فانية وأموال ذاهبة متاع غرور ) نعم أنا الدنيا وتصرخ نعم أنا الدنيا وإذا بي أفر لأجد نفسي في
فراشي الدافئ فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم ومن هذا الحلم الغريب حينها تلوت قول الله
سبحانه وتعالى ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )
منحنا الله وإياكم ( حسن الخاتمة ) ودمتم بعافية .
وكتب أديب 13 / 1 / 2008
المفضلات