كان المحبوب اسم عائلته، لايملك من الدنيا إلا ثيابه ... وعريشاً من جريد النخل على حافة البلدة من ناحية (باب الخلا). لم يذق قطرة قهوة منذ أيام، كان يشمها ليل نهار في مروره بين البيوت والأسواق، تعف نفسه أن يدخل أيٍ من المجالس المفتوحة، أو يقبل دعوة من أي أحد إلا ما ندر ...مر من سوق المسوكف ..فلمحت عيناه حبة قهوة خضراء مرمية على الأرض الترابية... انحنى والتقطها ...بحث حولها .. مشى باتجاهات عدة ... فعثر على ثانية .. ثم ثالثة ...اكتشف حبات أخرى متباعدة ..مكث يفتش ويلتقط بجَلدٍ عجيب .. يمر أُناسٌ .. يحيونه فيرد التحية ... زحف الظل ما يقارب مسافة ذراع و شمس آخر العصر- (مسيّان) كما يسمونه،- تتأمله مع بقية الخلق ..كانت الحصيلة تثير الفرح، سبع عشرة حبة قهوة خولانية .. مشى بنشوة عاتية إلى (دكان البذرة) في الخريزة (لم يكن المكان حديثاً .. ربما عمره ستة قرون) سلّم على البذرة .. فك صرة من شماغه ومد له الحبات السبعة عشر .. أوصاه أن يحمسها حتى تحترق ...
أشعل البذرة في فناء بيته المجاور بعض الخوص، وضع المحماس على النار، وبدأ يقلب الحبات بتأنٍ وغبطة .. زفرت القهوة الخولانية .. فاحت رائحة موجعة من بين أنسجة الحبات، طقطق صوت قلبها المتأجج .. تقلبت مرة تلو أخرى حتى أصبحت بلون الليل ... دقها بالنجر على عجل، صب من قربة ماءٍ بمقدار فنجانين في قاع دلة بغدادية بلون غرنوق، تركها على النار قليلاً، أفرغ كل مافي النجر في الدلة، انتظر حتى غلت عدة مرات ..
حملها إلى عتبة الدكان .. كان المحبوب ينتظر على أحرّ من نار الخوص ... تناول البذرة فنجاناً خزفياً لُحِمَ كسره عدة مرات، صب في قاع الفنجان، رفع الدلة وخفضها حتى ضربت الفنجان محدثةً صوتاً حاداً ... قبض المحبوب على الفنجان الممدود .. قربه من فمه .. استنشق الرائحة بشهقة عميقة كادت أن تؤذي صدره ... رشف كل مافي الفنجان رشفة واحدة ..حبس السائل الغامق في فمه قليلاً ... دفعه إلى جوفه .. أحس بِخَدرٍ عظيمٍ لامثيل له.
المفضلات