[align=right]- فوتي ماما الباب مفتوح
- وسام حبيبي هاد الكتاب تركتو الهام من فترة و طلبت مني اعطيه الك في الوقت المناسب يلي أنا بعرف متى هو
- طيب ماما اتركيه هون شوي تانية بشوفه
- ماما وسام امسح دمعتك وطلاع من حزنك هاد ... الحياة هيك ... بتاخد متل ما بتعطي و أحياناً بتكون كتير قاسية
فبرضاي عليك يا ماما طلاع من هاد الوضع يلي أنت فيه .... حرام عليك .... أنت هيك عم تعذب روح الهام
وتوجهت الأم باتجاه باب الغرفة و قد لمعت في عينيها دمعة بدأت تولد وهي تجاهد في إخفائها و خنقها داخلها ..
وهي ترى ابنها الوحيد يذوب أمامها كشمعة دون ان تقدر ان تقدم له أي شيء .... سوى الدعاء و الصلاة و التضرع إلى الله ان يخرجه من هذه المحنة ...
أمسك وسام الكتاب بين يديه بعد ان سمع الباب يغلق خلف والدته ... و بدأ يقبله و يغسله بدموعه , كان الكتاب عبارة عن مجموعة من قصائد نزار قباني .... فتح الصفحة الأولى فوجد فيها بضع أسطر كتبت بيد الهام فقرأها مرات ومرات و مرات ....
" حبيبي وسام لقد أحببتك كما أحبتني تماماً , لقد كنت بالنسبة لي نور الحياة التي كنت أعرفت بأني سأفقدها بعد ان وجدتك , كنت لي جزيرة الأحلام .... لكن شاء القدر ان تبتعد سفينتي عن شواطئك . لأنتظرك في مكان آخر , و أرجوا من الله ان يطول انتظاري ...."
وضاعت الكلمات في عيون وسام و أصبحت تسقط حرفاً حرفاً مع دموعه و انتقل بذاكرته إلى ذلك اليوم الربيعي الجميل الذي استيقظ فيه لأول مرة منذ انتقل مع والدته إلى الحي الجديد , على انغام سيدة الطرب فيروز وهو قادم مع الأثير ليدخل من نافذته التي تطل على الشارع الصغير وهي تقول " سلم لي عليه " ....
فدفعه الفضول إلى النظر من النافذة فهي سابقة خطيرة ان يستيقظ على أنغام فيروز وهو الذي كان يدعو الحي بحي الأموات لأن الصمت كان يلغيه صباحاً و مساءاً .... فشاهد مباشرة في الشرفة التي أمام شرفة نافذته ولأول مرة النافذة التي طالما رأها مغلقة في وجهه وقد فتحت على مصراعيها و شرفتها مليئة بأزهار من كل الألوان و صبية جميلة تسقيها و تمسك بيدها فنجان قهوة الصباح .... و لمعت على طرف فمه ابتسامة ما ...
فخرج من الغرفة و اتجه إلى المطبخ حيث يعرف بأن والدته هناك تعد له طعام الإفطار من اجل ذهابه إلى الجامعة فدخل إليها خلسة كالعادة و قبلها على خدها قائلاً :
- صباح الخير يا ملاكي كيفك اليوم .
- الحمد لله يا ماما أنت كيفك حبيبي و كيف صباحك
- بتعرفي ماما اليوم أجمل صباح من يوم ما سكنا بحي الأموات هاد .... كان الحياة رجعت
- ليش يا ماما شو صار ...
- ما عم تسمعي صوت فيروز ... بعدين أول مرة بشوف قمر واقف بشباك .
- آه منك ... لحقت ... فهمت قصدك بس يا ابني معقول أنت ؟ لسى ما لحقنا نعرف الجماعة
- يمكن ... بس كأنهم جابوا الحياة معهم لهاد الحي الميت ... يلا ماما عن إذنك راجع .
- تعال .. الإفطار جاهز و بعدين بتروح .... ولا شو صار لك
مضى وسام مسرعاً دون ان يسمع ما قالته والدته ...
فضحكت و قالت في قرارة نفسها ياله من ولد ... الله يحميك يا ابني
دخل وسام غرفته حيث قام بتبديل ملابسه و تناول كتبه من فوق الطاولة و عاد مسرعاً إلى المطبخ لتناول طعام الإفطار قبل ذهابه إلى الجامعة .... و خرج من البيت بسرعة مثل العادة ووالدته تضحك و تدعوا له بالتوفيق ...
خرج من باب منزله و هو يرصد الشباك المقابل له بنظرات فيها لمعان الحياة و الفرح .
و في المساء عاد وسام إلى البيت كالعادة بكل الصخب و الضجة التي يصنعها عند دخوله
- ماما .... ماما .... وينك
- أناهون يا ماما .... بالصالون
- يلا جاي ... استني لحظة ماما بس غير تيابي .
- يلا ماما عم استناك القهوة جاهزة
دخل وسام إلى غرفته فسمع صوت عبد الحليم حافظ يخترق نافذته التي تركها مفتوحة منذ الصباح ليملأ الغرفة فرحاً
فبدأ بالرقص مع نغمات الأغنية و نظر إلى النافذة التي أمامه مباشرة فشاهد ذلك الملاك يقف بها , و يضحك من تصرفاته الصبيانية , فاقترب من نافذته كمن يشده شيء ما ... ورفع يده بالتحية و تسمرت نظراته على ذلك الوجه الملائكي الذي يحيط به شلال من ذهب و تجمدت يده في الأعلى ... و تجمد معها الزمن ....
طرقات والدته على باب الغرفة تعيده إلى الواقع من جديد ....
- ماما وسام شو صار معاك ...
- يلا ماما ثواني و بكون عندك
أسدل الستار على نافذته و قام بتبديل ملابسه و خرج إلى الصالون حيث تجلس والدته بانتظاره و بدأ يمطرها بسيل من الأسئلة دون ان ينتظر منها جواباً
- عرفت مين الجيران الجدد ..
- منين اجوا ؟
- شفت القمر يلي عندهم ...
- شو اسمها ؟؟ قصدي ...
تضحك أم وسام بكل جوارحها و هي تسمع ولدها وسام ولأول مرة منذ وفاة والده و هو سعيد لهذه الدرجة و متلهف للحديث و هو المعروف عنه بأنه من غرفته إلى الجامعة و حين يجلس معها يجلس صامتاً يجيب عن الأسئلة و ليس طارحاً للأسئلة
- على مهلك يا ماما ... الجيران جدد ... و ما عرفنا عنهم شي .
و هكذا أصبح وسام يستيقظ صباحاً على أنغام فيروز و ينام على أنغام عبد الحليم أو أم كلثوم , و يطيل الجلوس في الشرفة يتبادل النظر مع ذلك الملاك المقيم أمامه .
و ذات صباح شاهدها تخرج من باب بيتها فما كان منه إلا أن أسرع بالنزول من البيت و اقترب منها قائلاً :
- صباح الخير
- صباح النور
- عفواً و ان كنت تقيل دم .... أنا اسمي وسام .... جاركم .... أنا يلي شباكي مقابل شبلكك ... أنا
- أهلين وسام .... أنا الهام .... أنا يلي شباكي مقابل شباكك ...
و تضحك ثم تسرع بالابتعاد عنه ....
يقف وسام في مكانه و كأن رجليه قد شدت إلى الطريق ثم يعود ركضاً باتجاه منزله و يدخل إلى البيت صارخاً :
- ماما .. ماما .. اسمها الهام يا ماما
- على مهلك حبيبي .. على مهلك ... فهمني شو صار
يمسك بيدي والدته و يقوم بالدوران حولها
- حكيت معاها يا ماما ... اسمها الهام .. الهام ... الهام
يمضي باتجاه غرفته و هو يردد اسمها كمن يردد أغنيه أو كطفل حف أنشودة جديدة في المدرسة
تمر الأيام ...
يصبح وسام و الهام صديقين عبر أثير الصباح و نسمات المساء يتبادلان الحديث و الإشارات عبر شرفتي غرفتيهما
صباحاً و مساءاً ..... وولد حبهما و بدأ ينمو و يكبر رويداً رويداً .....
في بعض الأحيان كانا يسرقا لحظات من عمر الزمن ليتقابلا في الحديقة القريبة من الحي ... لقاء لا تتعدى دقائقه أصابع اليد الواحدة يتبادلان خلاله التحية و كلمات سريعة ... ثم تمضي الهام مسرعة إلى منزلها ...
أصبحا يتباريان من يستيقظ منهما في الصباح أولاً ليلقي بوردة حمراء على شرفة الآخر ... وفي كثير من الأحيان كان وساك يلقي بالوردة مساءاً قبل ان ينام حتى يسجل نقطة على الهام ... هذه الحركات كانت تدخل البهجة و السرور إلى قلب الهام المثقل بالهموم ... و الذي كان ينتظر ان يتوقف في أي لحظة فقد كانت تعد أيامها المتبقية لها في هذه الحياة تقضي وقتها بين الكتب و أزهار شرفتها تنتظر قدرها بكل رضى وتسليم بقضاء الله سبحانه و تعالى
_ و في غفلة من القدر _ دخل وسام إلى حياتها و تسلل إلى قلبها رغماً عنها , و أصبح يشكل جزءاً كبيراً من عالمها ... و أي عالم هذا و قد حدد لها الأطباء بأن مرضها لن يمهلها أكثر من ستة أشهر .." و الأعمار بيد الله "
و هي التي تركت مدينتها و جامعتها و سافرت مع أهلها إلى مدينة أخرى _ حيث يسكن وسام _ لتكون بعيدة عن أصدقائها و جيرانها و أقاربها حتى لا تشعر بالألم و هي تراهم أمامها كل يوم و هي التي تعرف بانه سيأتي يوم لا تراهم به إلا من الأعلى و ولن يروها إلا في ذكرياتهم ...
و هاهو القدر يضع في طريقها وسام الذي تحول إلى عالم كامل ترغب بكل جارحة من جوارحها ان تعيش به لكن كل الأبواب موصدة , وكل الطرق مسدودة تنتهي بحفرة في الأرض .....
جلست الهام أمام مرآتها و قد لمعت الدموع في عينيها كبريق النجوم حتى ان الدمع يكاد يحفر على وجنتها مجرى له و هو يرسم طريقه نحو الأرض تناجي ربها بصوت مخنوق .... و تطلب منه الصفح و الغفران ... و الرأفة بحالها ...
- يا رب شو ذنب وسام انو يتعلق فيني .
- يا رب شو ذنبي أنا ... اللهم لا اعتراض على حكمك ...
- أنا لازم ابعد عن وسام ... حرام ... ما لازم خليه يتعلق فيني أكتر ... بس رح اصبر لحتى يخلص امتحان التخرج
و تسترسل في البكاء بصوت مرتفع و هي تسند رأسها إلى يديها فوق طاولتها و قد تبللت خصلات شعرها الذهبي بدمعها مما زاد من لمعانه ....
و في الطرف الأخر كان وسام يجلس إلى طاولته بين كتبه يراجع دروسه من اجل الامتحان الذي أصبح على الأبواب
فهذه سنته الأخيرة في الجامعة .... كان يدرس بجد فقد وعد الهام أن يكون من أوائل دفعته كان يرى وجهها في كل صفحة و هي تقول : وسام دروس منيح حبيبي ... لازم تكون أول دفعتك .
***********************
كالعادة استيقظ وسام على أنغام فيروز فتح نافذته فإذا بالهام تقف بشرفتها و تمسك باقة من الورد الأبيض على غير العادة و تلقي بها إليه و هي تقول صباح الخير .... الله يوفقك ..
ضحك وسام و أرسل لها قبلة مع أجنحة النسيم و ألقى لها بوردة حمراء ..
و مرت أيام الامتحان ووسام يحقق نتائج جيدة ... وفي اليوم الأخير و بعد أن أنهى وسام امتحانه , و كان قد اتفق مع أصحابه على الخروج معاً , أحس بشعور غريب يسري في جسده يكاد يعتصر قلبه و يخرجه من بين حنايا صدره
فاعتذر منهم ,
و اخذ سيارة أجرة و طلب منه الإسراع , ما أن وصل إلى مدخل الحي حتى شاهد سيارة الإسعاف و هي تدخل بسرعة إلى الحي و تقف أمام بيت الهام و شاهد رجال الإسعاف يدخلون مسرعين إلى الداخل ثم يخرجون و هم يحملون شخص ما على النقالة يضعوه داخل السيارة و تنطلق بأقصى سرعة ...
اقترب وسام من البيت و دخل مسرعاً إلى بيته حيث شاهد الدموع في عيني والدته
- ماما شو فيه ... شو صار في بيت الهام ... مين أخدت سيارة الإسعاف ....
تمسح الأم دموعها و ترسم على وجهها ابتسامة شاحبة و تقول :
- أبداً يا ماما بس الهام تعبانه شوي ... اخدوها على المشفى ... كلها ساعة زمن و بترجع ...!
تعى لحضني يا عيون ماما ..
**********************
و مرت الأيام ثقيلة على وسام و هو يجلس في غرفته أمام النافذة يرقب نافذة الهام يرفض ان يتحرك
و عاد الموت للحي من جديد ... بدأت الأزهار على شرفة الهام بالذبول و عاد الصمت يسكن ذلك المنزل من جديد
و عاد وسام إلى صمته المعهود
بعد أكثر من شهر لمح حسام سيارة كبيرة تقف أمام منزل الهام و يترجل منها والدها ووالدتها و قد توشحت بالسواد
ورسم الحزن معالمه على وجهها أما الوالد فقد كبر سنوات خلال أيام
كان الوالد يشرف على تحميل الأغراض في السيارة و الأم تقف مع أم وسام التي خرجت لتستطلع ما الخبر
خرج وسام من المنزل و اقترب من والد الهام :
- السلام عليكم يا عم .... خير ليش تاركين الحارة .... طمني عن الهام ... كيف صحتها ... وينها ؟
يجيب والد الهام و هو كابر في إخفاء دمعة بدأت تحاول التسلل من تحت جفونه
- و عليكم السلام يا ابني ... و الله صار لازم نرجع لبلدنا ... ما عاد في شي يربطنا بهاد المكان
- طيب عمي وين الهام ممكن شوفها
- آه يا عمي .... الهام صارت بين أيدين ربنا سبحانه و تعالى .
يصرخ وسام كالمجنون لا ... لا .... مستحيل الهام ما ماتت الهام عايشه ... عايشه ...
و يدخل إلى المنزل و هو يصيح الهام ... الهام ... و يصعد إلى غرفتها و يفتح النافذة و يجلس على ارض الشرفة و هو يحتضن بعض أواني الورد التي ذبلت و يبكي بحرقة ....
ينهض و يخرج بهدوء والدموع تغسل وجهه و تتساقط كقطرات المطر و يتجه إلى منزله و يدخل إلى غرفته
*************************
طرقات خفيفة على باب الغرفة وصوت والدته يناديه يعيدانه إلى اللحظة الحالية التي يعيش فيها و يخرجانه من ذكرياته التي غرق بها .... يمسح دموعه , يضع الكتاب من يديه وهو يقول :
- فوتي ماما الباب مفتوح .
تدخل الوالدة و تقول :
- يلا ماما حرام عليك قوم الغدا صار جاهز
- طيب ماما أنا جاي ... بس بعد الغدا أنا مسافر
- لوين يا عيون ماما ! !! وين بدك تروح ؟؟
- بدي روح زور قبر الهام
- طيب يا ماما ... خليك لبكرى الصبح
- لا ماما بعد الغدا مسافر
يتناول طعام غدائه بسرعة ثم يدخل إلى غرفته و يبدل ملابسه و يخرج مودعاً والدته
يتجه إلى محطة الركاب ليستقل أول حافلة تتجه إلى مدينه الهام , جلس في المقعد و أخذ ينظر من النافذة إلى الطريق
كانت الدموع تهرب من عينيه رغماً عنه و هو يجاهد بمحاربتها دون جدوى ... كان وجه الهام يمر أمامه بسرعة وهي تضحك و تركض باتجاه منزلها كلما التقيا في الحديقة و حاول الاقتراب منها ليمسك بيدها ..
************************
وصل إلى المدينة و هناك اتجه إلى اقرب محل لبيع الزهور و اشترى باقة من الورد الأبيض و الأحمر و بدأ بالتجول في المدينة وهو يسأل عن المقبرة حتى وصل إليها , وقف برهة أمام بابها الكبير و تلى الفاتحة
ثم بدأ يتجول بين القبور بحثاً عن قبر الهام ... حتى عثر عليه و قد كان الليل قد بدأ يغزو الكون مرخياً سدوله على كل شيء حتى على قلب وسام ..
وضع وسام باقة الورد بجانب رأسه الذي وضعه فوق القبر البارد كذلك وبدأ يرويه بدموعه و هو يقول :
- الهام ... ليش مشيت وتركتيني ... ما بتعرفي انو حياتي معاك ... ما بتعرفي انك الفرح يلي زين عمري
- الهام ... الله يسامحك كيف بتطلبي مني أتأخر بالوصول إليك ... مابتعرفي انو ما بقدر خليك تنتظري كتير
و أغمض عينيه و بدأت حركاته بالسكون و بدأ البرد يتسلل إلى جسده بالرغم من حرارة الجو .........
و في الصباح الباكر عندما حضر حارس المقبرة شاهد فوق ذلك القبر المرمري جسد شاب يحيط بالقبر بكلتا يديه و قد ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة , و يقايا دمعة ماتت و هي في طريقها إلى باقة الورد
[align=center]20/9/2006[/align][/align]
المفضلات