المقدمـــة
الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
من كتاب: يوم الغضب هل بدأ بانتفاضة رجب؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذا الكتيب يحوي بشرى للمستضعفين في الأرض المحتلة خاصة وللمسلمين عامة.
ولكنه لم يكتب ليبشرهم؛ فإن في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المبشرات الكثير، وما عدا ذلك منـها له حدوده وضوابطه، فالمضمون إذن لا يؤسس عقيدة للمسلمين - كما قد يظن بعض القراء من أهل الكتاب والمسلمين وغيرهم- وإنما كتب ليختطّ أسلوباً في التعامل مع الأسس الفكرية لعدو الإنسانية اللدود "الصهيونية - بوجهيها: اليهودي، والأصولي النصراني- "ذلك العدو الذي أشغل الدنيا، وملأ الفضاء والورق بالحديث عن النبوءات الكتابية -لاسيما بعد الانتفاضة الأخيرة- .
ودراسة النبوءات هي أحد مواد البحث في الدراسات المستقبلية، إلا أن النبوءات كالأفكار منها الصحيح، ومنها الزائف، ومن حق القارئ العالمي أن يجد الرأي الآخر في هذا الموضوع الخطير، ومن حق القارئ المسلم أن يطالب باستدعاء الاحتياطي في هذه المعركة الطويلة الشرسة، والاحتياطي هنا هو الدراسة الموضوعية للأصول العقدية للعدو ولنفسيته وسلوكه، من خلال مصادره وتراثه التي هي عماد روحه المعنوي وإيمانه بقضيته.
وحين نفعل ذلك فإننا في - الحقيقة - لا نأتي بجديد، وإنما هو امتثال للمنهج القرآني الذي علَّمنا الرجوع إلى المصادر الكتابية؛ لإقامة الحجة وإلزام المفتري: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93] .
مثلما علَّمنا أنهم كتموا الحق وألبسوه بالباطل وهم يعلمون.
وإذا كانت عدالة القضية هي أساس الروح المعنوية للمقاتل، فإن التوراة لا تدل فحسب على أن قضية الجندي الصهيوني غير عادلة، بل تدل على أن من الواجب عليه أن يقاتل في الصف المقابل، كما تفرض على المستوطن أن يعلم أن قدومه إلى هذه الأرض إنما هو لاستنـزال عقوبة الله وإحلال غضبه عليه، فلا أقل من أن يرحل! وإن كان الأحب إلينا أن يهتدي لنور الله، ويصبح أخاً لنا في الإسلام الذي هو ملة إبراهيم عليه السلام، ويشاركنا نعمة الإيمان بكل كتب الله ورسله، بلا تفريق بين أحد منهم.
ولا ينبغي أن ينتظر (يوم الغضب) لكي يرحل أو يؤمن، فربما ضاعت الفرصة العظمى قبل ذلك اليوم أو فيه.
إنني أنصح كل يهودي في أرضنا المحتلة ألا يدع التوراة حكراً على محترفي الكهانة، الذين يحصلون على إعفاء مجاني من الخدمة العسكرية، بينما هو يقدم نفسه من أجلها وأجلهم.
إنني أنصحه أن يقرأها ولكن بعقله ووعيه لا بشروحاتهم وتأويلاتهم، وسيرى الحقيقة التي لابد للعالم كله أن يراها عما قريب!!
وليعلم أنه مهما اعتدى علينا، وقتل أطفالنا، وأحرق مزارعنا، وأفسد علينا حياتنا، فإننا لن نعامله إلا بما شرع الله لا بما تشتهي أنفسنا، وأننا لا نريد لـه ولا لأحد من البشر إلا الفوز برضى الله والسعادة في الدنيا والآخرة.
أما الحساب الكامل والقصاص العادل، فإنما يكون يوم القيامة بين يدي الله الذي سيحاسبنا جميعاً على ما عملنا من خير أو شر، وهناك لا تنفع الدعاوى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123].
إنها كلمة سواء نلتزم بها من طرف واحد، ونأمل أن يكون لدى الطرف الآخر من الشجاعة ما يجعله يلتزم بها أو يحاول...
المؤلف
سبب تأليف الرسالة
فهذه رسالة من سفر بن عبد الرحمن الحوالي إلى أصحاب الفضيلة والسماحة هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وعلى رأسهم سماحة الوالد الجليل الشيخ عبد العزيز بن باز حفظهم الله جميعاً آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فغيُر خافٍ عليكم ما نزل بأمة الإِسلام من فاجعة وكارثة لن ينساها التاريخ إلى قيام الساعة، تلك التي ابتدأت ظاهراً بغزو الجيش البعثي العراقي للكويت ، ثم تداعي أمم الغرب النصرانية وتوابعها على المنطقة جميعها، وإنزال عشرات ألوف من الجيش الأمريكي وغيره في الرياض وجدة والطائف وينبع وعسير -فضلاً عن المنطقة الشرقية والشمالية- وتطويق المنافذ البحرية لـجزيرة العرب جميعها بذريعة الحصار الاقتصادي للعراق .
وقد هالني هذا الأمر؛ كما هالَ كل مؤمن لا سيما والحق أنني كنت أتوقع شيئاً من هذا منذ قيام ما سمي "الوفاق الدولي بين الشرق والغرب"، واتحاد أوروبا الصليبية تحت راية واحدة، وحذرت منه في أكثر من محاضرة متمثلاً بحديث زينب بنت جحش رضي الله عنها في الصحيحين : {لا إله إلا الله، ويلّ للعرب من شر قد اقترب }.
ثم جاءت المصيبة أكبر مما توقعتُ وأعظم مما أنذرتُ، وأحسب أن جزيرة العرب منذ أن خلق الله صحراءها، وحَفَّها ببحارها لم يَدْهَمْهَا مثل هذا البلاء قط، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقد عرضت رأيي في الأحداث وأسبابها وعلاجها على بعض إخواني من طلبة العلم في أكثر من لقاء، فكان له آثار مختلفة، وكانت الأحداث تتوالى والبيانات تصدر، وردود الفعل تضطرب، وقد كانت هذه الأحــداث هي الشغل الشاغل، ومثار الجدل، واختلاف الرأي بين الناس عامتهم وخاصتهم، وخاصة طلبة العلم الذين انقسموا فريقين. لكل منهما رأيه:
أصحاب الرأي الأول أمام الأحداث
أن الأحداث كلها جدت بصورة عفوية، فالعالم كله فوجئ في يوم الغزو، وفوجئت المملكة بحشود عراقية، فطلبت النجدة من الدول العربية والغربية لحماية أمنها، فجاءت تلك الدول استجابة لذلك الطلب، وسيرحلون فور انتهاء الأزمة، ووجودهم لا يتعدى الضرورة المؤقتة، وسوف تعود الأمور على ما كانت عليه من قبل.
و طبيعي أن أصحاب هذا الرأي لم يكن لهم اعتراض أو تحفظ على القرارات والمواقف الرسمية.
و لما سمعوا الرأي الآخر بادروا إلى معارضته وتخطئته مستعينين ببعض أقوال الفقهاء والعلماء قديماً وحديثاً في مسألة الاستعانة بالكفار.
الرأي الآخر
أن الأحداث في جملتها نتيجة لمخططات قديمة، الغرب له مخططاته، والبعثيون لهم مخططاتهم، ودول مجلس التعاون لها مواقفها وحساباتها وكذلك الأطراف الأخرى، وأنه منذ الوفاق الدولي وانهيار المعسكر الشرقي، كان متوقعاً حدوث تطور خطير في الشرق الأوسط على تفاوت بين المحللين في ماهية هذا التطور وعواقبه؛ فكانت هذه الأحداث.
خلاصة المقدمة
والخلاصة أن هذا الرأي في الجملة مناقض للرأي الأول، وأن أصحابه يعترفون أو يتحفظون تجاه المواقف والقرارات المتخذة...!! ويرون القضية خارجة عن دائرة الخلاف الفقهي في مسألة الاستعانة، وأن الواجب على الأمة أن تعرف الواقع على حقيقته، وأن تواجه التحدي بالقوة المستطاعة، وأن تحسب لكل احتمالٍِ حسابه، وتقدر الضرورة بقدرها، وأن هذا خير من التكتم والتعتيم وتخدير المشاعر إلى أن تقع في هاوية لا يعلم قرارها إلا الله.
لا سيما وقد جاء على لسان أكثر من مسئول في هذه البلاد وغيرها أن المنطقة دخلت في نفق مظلم لا يعلم نهايته إلا الله وحقاً نطق، فقد كنا نظن أن الأمة قد استقرت في القاع، وأنه ليس وراء واقعها من سقوط، فإذا بهذا القاع السحيق يفتح فَاهُ لتدخل في نفق عميق ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولما كنت من أصحاب الرأي الأخير، وأعلنته أمام عدد من الدعاة والمشايخ، وحدث له ما حدث من اعتراضات وردود فعل وتفسيراتٍ خطأ "مع ما له من تأييد واسع النطاق لدى الخاصة والعامة".
وبناءً على ما تم بيني وبين سمو نائب وزير الداخلية من جهة وبين سماحتكم وسمو الوزير من جهة أخرى من اتفاق على المباحثة مع سماحتكم وأعضاء الهيئة في هذا الأمر، والخروج بالنتيجة المناسبة التي تبرئ الذمة ويكون فيها النصّح للأمة، وأن في إمكاني تقديم أي نصح مباشر أو بواسطة سماحتكم؛ كتبت لكم وجهة نظري هذه، راجياً أن تنال اهتمام الجميع، وما كان فيها من صواب يُؤَيَّدُ ويُبَلَّغُ منكم وباسمكم للحكومة، وما كان من خطأ فأنتم خير مَنْ يردُّني عنه، وأكرر رجائي بالاهتمام بالأمر، فهي قضية لها ما بعدها، وسوف يسألنا الله تعالى عنها وتحاسبنا الأجيال من بعد عليها!! وهي عبارة عن عرض موجز لجذور الأزمة ثم عرض مسهب للمخططات الدولية التي أخرجتها، وبعض الاقتراحات.
سفر بن عبد الرحمن الحوالي
أول خلاف في الملة
والخلاف في مسألة الإيمان -مع كونه أول خلاف في الملة- ظل من أعظم قضايا الخلاف بين هذه الأمة في عصورها كلها، وفي مطلع العصر الحديث أصبحت أعظم القضايا التي تشغل بال هذه الأمة، وذلك منذ أن ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله التي أعادت الحنيفية جذعة نقية.
فقد أطبق أعداء السنة على أنها دعوة خارجية وفكرة حرورية لأنها -بزعمهم- تكفر المسلمين، وما كفرت مسلماً قط، وإنما كفرت المشركين وحاربت المارقين.
ومهما يكن من أمر فقد أحدثت هذه الدعوة المباركة صدىً عالمياً كبيراً اضطر مخالفها إلى إعادة النظر في حقيقة الإيمان والكفر والشرك والتوحيد.
ثم كانت موجة الحملات الصليبية الأخيرة -الاستعمار- وفتنة الحضارة الغربية الجاهلية، فذهلت الأمة عن دينها ونسيت انتماءها حتى شاء الله -تعالى- أن تخرج من بقايا دعوة الشيخ أو من أصدائها دعوات وحركات تنادي بالإسلام من جديد.
وفي العقود الأخيرة خاصة ظهرت بواكير عودة صادقة إلى الإسلام الكامل، والتخلص من آثار الغزو الحضاري الكافر وتمثل ذلك في شباب فتحوا أعينهم على أمة منهارة متطاحنة تعاني أمراضاً مزمنة في كل منحى ومجال.
أمة ترضى من دينها بالانتساب الاسمي بلا عمل ولا جهاد ولا دعوة، وتلقي مسئولية كل عجز ومرض وتخلف وذل على تخطيط الأعداء ومؤامرات الاستعمار.
ثم وقعت في السنوات الأخيرة أحداث كبرى على الساحة الإسلامية أثبتت الفراغ العقدي الهائل الذي يسيطر على الأمة، والفوضى الرهيبة التي يعاني منها الشباب في التصورات والسلوك.
لقد استطعنا -نحن شباب الإسلام- أن نكسر طوق الولاء المطلق للغرب، وأن نرفض حضارته الزائفة إلى حد لا بأس به، وعرفنا الكثير من عدونا وخططه ومؤامراته، لكننا حتى الآن لم نعرف حقيقة من نحن، وفي أي طريق نسير.
نردد: إنا مسلمون، وفي طريق الإسلام نسير.. ولكن أقدامنا تصطدم بصخور وركام أنتجتها قرون طويلة من الضلالات والانحرافات.
وعلينا لكي نرتقي بأنفسنا وأمتنا أن نجتاز عقبة شائكة يعترضها ثلاث وسبعون طريقاً , الطريق المنجي منها طريق واحد فقط وما عداه مهلكة، وهذا الطريق الوحيد هو منهج أهل السنة والجماعة الذي نجزم عن دين ويقين أنه منهج الفرقة الناجية الذي لا يقبل الله سواه.
وإن تعجب فاعجب لكون النظرة الغالبة على كثير من شباب الدعوة الإسلامية اليوم هي أن عقيدة أهل السنة والجماعة لا تعدو أن تكون تصورات نظرية صحيحة لعالم الغيب وقضايا الاعتقاد، وليست -مع ذلك- منهجاً للدعوة والإصلاح والتغيير!!
ويجب أن نعترف بأن السبب في هذا الفهم القاصر هو حملة هذه العقيدة -قبل كل شيء- الذين لم يوضحوا معالمها ويكشفوا عن كمالها الذي هو حقيقة كمال الإسلام نفسه.
ولهذا رأيت من واجبي -وقد وفقني الله لأن أتربى على هذه العقيدة وأعرف حقيقتها العلمية وأتمثل منهجها العملي مستوحى من سيرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووقائع الدعوات التجديدية السنية- أن أسخر حياتي العلمية لهذا الأمر العظيم.
وقد بدأت ذلك برسالة التخصص الأولى.. التي كان موضوعها: العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية ثم ثنيت بهذه الرسالة لنيل درجة التخصص العليا، فكانت الأولى تعالج فصل الدين عن الحياة، والأخرى تعالج فصل الإيمان عن العمل، كلتاهما على ضوء هذه العقيدة , ومن هنا كانتا تعبران عن قضية واحدة وإن تباعد موضوعاهما ظاهراً.
وقد كانت الأولى بلا ريب طريقاً للأخرى؛ فمن خلال الدراسة لأسباب العلمانية الطاغية على الحياة الإسلامية المعاصرة رأيت رأي العين أن سبب كل انحراف وذل وهزيمة وفرقة في حياتنا، لا يزيد عن شيء واحد هو البعد عن منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة والسلوك وسبيل الإصلاح.
المباحث التي اشتملت عليها الرسالة
وانطلاقاً من ذلك كان منهجي في هذه الرسالة يقوم على ثلاثة أسس:
* الأول: دراسة الإرجاء على أنه ظاهرة فكرية لا فرقة تاريخية .
والفرق بين هذين كبير جداً في طبيعة البحث وفي آثاره ونتائجه؛ فحين نبحث الإرجاء على أنه فرقة من الفرق التي طواها التاريخ فإن من أهم ما يفوتنا هو معرفة حقيقة واقعنا المعاصر الذي يسيطر عليه الفكر الإرجائي، وحينئذ لا يزيد البحث عن كونه عملاً أكاديمياً يضاف إلى مجموعة المؤلفات التي تتحدث عن تاريخ الفرق وآرائها.
أما حين نبحثه على أنه ظاهرة فكرية نشأت ثم تطورت إلى واقع ضخم يواجه كل دعوة تجديدية، ونفسر بها كثيراً من أسباب التخاذل والتردي الذي تعاني منه الأمة عامة والدعوة خاصة، فإن النتائج الإيجابية لذلك ستنهال علينا من كل جانب، وحسبنا إن لم نعط القضية حقها أن نثيرها ونبعثها ونخطو في سبيلها ما استطعنا، ثم الله يهيئ لها ما يشاء.
ومن هنا انصب الاهتمام على ركن العمل وضرورته للإيمان والدعوة وكيف تخلت الأمة عنه مكتفية من الإيمان بالاسم والإقرار.
وهنا لا بد من بيان حقيقة مهمة كان لها أثرها البالغ في منهج البحث وهي: أن الإرجاء لم يكن -في الأصل- دعوة واعية مقصودة لترك العمل والتفلت من الطاعات، وإنما كان تفسيراً ضالاً لحقيقة الإيمان أنتجته أسباب تاريخية شرحناها في موضعها.
ولكن الأمة وهي تتراخى عن العمل بالتدريج، وتنفلت من الواجبات، وتنحدر عن قمة الامتثال رويداً رويداً كانت تجد في الإرجاء تفسيراً مريحاً يبرر لها تراخيها وتفريطها -وهذه حقيقة نفسية معروفة- فكل ما انحسر عنه العمل واقعياً ستره ثوب الإرجاء الواسع نظرياً.
ولهذا لم يكن المرجئة القدماء بحاجة إلى أكثر من كشف شبهاتهم النظرية، وردهم بالدليل العلمي الصريح.
ولكن الحال تغير بعد انتشار الظاهرة وسيطرتها؛ إذ أصبحت الأمة في القرون الأخيرة تتبنى الإرجاء عقيدة ومنهجاً، وتعد مخالفه خارجاً مارقاً، وتضبط دينها وأحكام إيمانها بأصوله وقواعده.
فصارت تعتقد أن التصديق القلبي المجرد من قول اللسان وعمل الأركان هو حقيقة الإيمان الذي أنزل به الله الكتب وبعث به الرسل وجعله مناط النجاة من عذابه في الآخرة، وتبني على ذلك لوازم وأحكاماً، أهونها تخطئة السلف في إجماعهم على أنه قول وعمل، وعدم تكفير طوائف من المرتدين.
وأصبح معنى كون الصلاة والزكاة والصيام والحج أركاناً للإسلام هو اعتقاد وجوبها والإقرار به وإن لم يعمل من ذلك شيئاً.
ونحو ذلك مما يستغربه الناظر أول وهلة، ثم يتأمل فإذا هو عندهم حقيقة واقعة.
والأدهى من ذلك أن تقوم بعض اتجاهات الدعوة الإسلامية -التي عملها وغرضها في الأصل إعادة الناس إلى حقيقة الإيمان اعتقاداً وعملاً- على هذا الفكر العقيم وتتبناه وتدعوا إليه، كما سنبينه في الفقرة التالية.
من هنا كان لا بد من تغيير منهج العرض والمناقشة لقضية الإيمان وعلاقته بالعمل والدعوة بانتهاج منهج يجمع بين الدليل العلمي النظري من النصوص وكلام السلف ، وبين الدليل الواقعي المحسوس من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحقيقة النفس البشرية ذاتها.
وإيضاحاً لذلك نقارن بين نص من كلام أحد رءوس المرجئة في مرحلة تأسيس الإرجاء، وبين ما يكتبه بعض الدعاة المعاصرين:
يقول عمر بن ذر الهمداني [1] أحد رءوس المرجئة ، وابن ذر بن عبد الله الهمداني الذي قال عنه الإمام أحمد : إنه أول من تكلم في الإرجاء: 'لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم ونظروا إلى أهل السآمة والغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم من الضجعة والنوم، قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عبادة السهر وطول التهجد، فاستقبلوا الليل بأبدانهم، وباشروا ظلماته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل وما انقضت لذتهم من التلاوة، ولا ملت أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولَّى عنهم الليل بربح وغبن .
أصبح هؤلاء قد ملَّوا النوم والراحة، وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعبادة شتان بين الفريقين .
فاعملوا لأنفسكم -رحمكم الله- في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما، وإنما جعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم، ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم، فأحيوا لله أنفسكم بذكره، فإنما تحيا القلوب بذكر الله.
كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حضرته، وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله -عز وجل- للعابدين غداً، فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله'[2] .
فهذا الرجل كان يقول: الإيمان هو الاعتقاد والإقرار فقط، لكن هل يتصور منه أن يقول: إن مجرد التصديق القلبي دون قول ولا عمل كاف في النجاة عند الله، أم إن القضية عنده شبهة نظرية مجردة لم يكن لها أي مدلول واقعي إلا الهروب من تكفير صاحب المعصية الذي وقعت فيه الخوارج ؟
غير أن هذا القول نفسه قاله بعض الدعاة المعاصرين امتداداً لظاهرة الإرجاء العامة، وقد ذكرنا كلامهم في موضعه.
* الثاني: معالجة واقع الدعوة الإسلامية المعاصرة، فالمشاهد اليوم أن أصحاب الدعوة ينقسمون غالباً فريقين، وكل فريق تتوزعه فرق وآراء واجتهادات:
- أحدهما: فطن إلى أصل القضية ومكمن الداء فأراد أن يصحح الأصول، ويجلي بدهيات الدين، ويربط ذلك بالعمل وضرورته، لكنه سلك في سبيل ذلك حرفة عقيمة في الفهم، وإشارة موغلة في الغلو، ظاناً أن هذا هو منهج العزيمة والاستقامة، فوقع في طامة التكفير أعني: تكفير أعيان عوام المسلمين من المخالفين.
وهكذا نفر من بدعة ليقع في بدعة شر منها، وسد على نفسه منافذ الاتصال بالناس، وإيصال الحق لقلوبهم، فتحولت دعوته إلى نظرة عقيمة تتآكل كل يوم، وتفرز بدعاً جديدة، واستتبع ذلك انحرافاً خطيراً في منهج التلقي والاستمداد، حيث وضعت أصول ومعايير لا تقل شراً وخطراً عن شرائع الطواغيت الوضعية.
- والآخر: انطلق في دعوته بدون منهج واضح ولا تصور اعتقادي متكامل، فلم يتناول الأمر بالتأصيل العلمي بل بالتهويش العاطفي، فكان أن واجهه أصحاب الفريق الأول بأصول وقواعد لا يملك مثلها ولا يستطيع ردها، فهرب من التكفير إلى التبرير، وأخذ يسند هذا الواقع المنحرف ويؤصله بنظريات بدعية، ووجد في مذهب المرجئة -الذي أصبح كما قلنا هو الظاهرة الفكرية العامة- بغية وسنداً، فنسى نفسه ونسى مهمته الأساس وهي تغيير هذا الواقع لا تبريره.
- فالفريق الأول: أعاد مذهب الحرورية جذعاً.
- والآخر: أحيا مذهب المرجئة غضاً ونقله من الدوائر الأكاديمية التقليدية إلى منهج العمل والتغيير!
وهكذا أصبحت الكتابة عن هذا الموضوع -حقيقة الإيمان- على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة ضرورية لكبح جماح الغالين، ودفع تفريط المقصرين.
الثالث: -وهو كالنتيجة للأولين- اختطاط منهج للبحث يزيد على مجرد البحث العلمي النظري للقضية أي: إيراد الأدلة ونقضها بإضافة عناصر جديدة تخاطب البديهة والوجدان والعقل معاً، وأهم جانب من ذلك استحضار واقع الجيل القدوة الذي رباه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتأسي بهم في استكمال الإيمان والدعوة إليه والحكم على تاركه، وكذا بيان حقيقة النفس الإنسانية، التي لا تخلو قط من إرادة وعمل، وربط ذلك بحكمة الدين وغايته التي هي إصلاح الإرادات وتزكية الأعمال، مما بين أن الإيمان اعتقاد وعمل على الحقيقة الشرعية والواقعية والنفسية في آن واحد.
على هذا دارت مباحث هذه الرسالة، التي أسأل الله تعالى أن ينفعني بها وإخواني المسلمين، وأن يجعل كل ما بذل فيها من جهد ونَصَب خالصاً لوجهه الكريم. وتبعاً لذلك قسمتها إلى خمسة أبواب:
أقسام المباحث المتبعة في تأليف الرسالة
- الباب الأول: يبحث في حقيقة الإيمان وارتباط العمل به من خلال:
1- دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرته.
2- حقيقة النفس الإنسانية.
3- حقيقة الإيمان الشرعية.
- والباب الثاني: يبحث في التاريخ الفكري للإرجاء منذ نشأته إلى أن أصبح فرقاً كثيرة، ثم ظاهرة فكرية عامة وواقعاً طاغياً، مع الاهتمام الخاص بقضية ترك العمل وحكمها عند المرجئة والأسباب الفكرية لوقوع ذلك.
- والباب الثالث: الإرجاء الظاهرة، وتفصيل الكلام على نوعي الإرجاء: إرجاء الفقهاء والعباد، وإرجاء المتكلمين والمتمنطقين، وحكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة.
- والباب الرابع: تفصيل لعلاقة الإيمان بالعمل، والظاهر بالباطن، مع الاهتمام الخاص بأعمال القلوب التي كان الانحراف فيها من أعظم أسباب انتشار الظاهرة، وشرح نماذج منها وهي بعض شروط لا إله إلا الله.
- والباب الخامس: بيان أن الإيمان حقيقة مركبة من ركني: القول والعمل، توصلاً بذلك إلى معرفة بطلان مذهب المرجئة في حكم تارك العمل مطلقاً، وبيان حكم صاحب الكبيرة على ضوء ذلك، وسبب ضلال الفرق فيه.
ثم نقض أهم الشبهات النقلية للمرجئة على أن العمل غير داخل في الإيمان.
هذا ولا يفوتني أن أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير إلى أستاذي الكريم الأستاذ محمد قطب ، الذي بذل من الوقت الثمين والرأي الصائب ما كان له أثره البالغ في إنجاز هذه الرسالة وتقويمها.
كما أشكر للجامعة الإسلامية بـالمدينة النبوية ولجامعة أم القرى بـمكة المكرمة ممثلتين في مسئوليهما كافة، ما أتيح لي من فرصة لطلب العلم وخدمة لتحصيله، وأخص بالشكر الإخوة العاملين بمركز البحث العلمي، وكذا كل من قدم لي خدمة، أو أسدى إليَّ توجيهات من الأساتذة الكرام أو الإخوة الزملاء.
والحمد لله أولاً وآخراً.
المفضلات