العالم الفقيه "أبو حنيفة" رحمه الله
هو النعمان بن ثابت بن زوطي, التيمي بالولاء ((أبو حنيفة))، فقيه العراق وإمام الحنفية وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. ولد سنة 80 للهجرة ونشأ بالكوفة, ولما شب تلقى الفقه على حماد بن أبي سليمان الأشعري وسمع كثيرا من علماء التابعين وروى عنهم كعطاء ابن أبي رباح ونافع مولى ابن عمر والشعبي والزهري وغيرهم. وروى عنه جماعة منهم ابنه حماد وزفر والهذيل ومحمد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف القاضي وغيرهم. كان زاهدا ورعا, أراده يزيد بن هبيرة, أمير العراق, أيام مروان بن محمد أن يلي القضاء فأبى وأراده بعد ذلك المنصور العباسي على القضاء فامتنع وقال: لن أصلح للقضاء, فحلف عليه المنصور ليفعلن, فحلف أبو حنيفة أنه لن يفعل, فحبسه المنصور إلى أن مات, وقيل إنه قتله بالسم وقيل إنه توفي وهو يصلي. كان واسع العلم في كل العلوم الإسلامية وهو الذي تجرد لفرض المسائل وتقدير وقوعها وفرض أحكامها بالقياس وفرع للفقه فروعاً زاد في فروعه, وقد تبع أبا حنيفة جل الفقهاء بعده ففرضوا المسائل وقدروا وقوعها ثم بينوا أحكامها. وكان أبو حنيفة يتشدد في قبول الحديث ويتحرى عنه وعن رجاله, فلا يقبل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا رواه جماعة عن جماعة, أو إذا اتفق فقهاء الأمصار على العمل به. توفي في بغداد عن سبعين سنة.
بشارة النبي صلى الله عليه و سلم به......
قال النبي صلى الله عليه وسلم مبشراً بأبي حنيفة: " لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجل من فارس ". وفي لفظ لمسلم: " لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجل من أبناء فارس حتى يتناوله ".
نزل ثابت والد الإمام الكوفة وكان من وجوه بلاد فارس، وعمل بالتجارة و كان ماهراً فيها و حافظ على نفس المستوى الاجتماعي الذي عاشته الأسرة من قبل، في رخاء و بحبوحة. التقى ثابت الإمام عليّ كرَّم الله وجهه الذي دعا له بالبركة فيه وفي ذريته.
حرصه على الكسب الحلال....
كان يقول: " أفضل المال الكسب من الحلال وأطيب ما يأكله المرء من عمل يده ".
جاءته امرأة بثوب من الحرير تبيعه له فقال كم ثمنه، قالت مئة، فقال هو خير من مئة، فقالت مائتين، فقال هو خير من ذلك، حتى وصلت إلى أربع مئة فقال هو خير من ذلك، قالت أتهزأ بي؟ فجاء برجل فاشتراه بخمسمائة.
وذات يوم أعطى شريكه متاعاً وأعلمه أنَّ في ثوب منه عيب وأوجب عليه أن يبين العيب عند بيعه. باع شريكه المتاع ونسي أن يبين ولم يعلم من الذي اشتراه، فلما علم أبو حنيفة تصدَّق بثمن المتاع كله.
وكان أبو حنيفة يجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة فيشتري بها حوائج الأشياخ و المحدثين و أقواتهم وكسوتهم و جميع لوازمهم ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم ويقول: أنفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله فإني ما أعطيتكم من مالي شيئاً ولكن من فضل الله عليّ فيكم.
كان الخليفة أبو منصور يرفع من شأن أبي حنيفة و يكرمه ويرسل له العطايا و الأموال و لكن أبا حنيفة كان لا يقبل عطاءً. و لقد عاتبه المنصور على ذلك قائلاً: لم لا تقبل صلتي؟. فقال أبو حنيفة: ما وصلني أمير المؤمنين من ماله بشيء فرددته ولو وصلني بذلك لقبِلتُه إنما وصلني من بيت مال المسلمين ولا حق لي به.
وقع يوماً بين الخليفة المنصور وزوجته شقاق وخلاف بسبب ميله عنها، فطلبت منه العدل فقال لها من ترضين في الحكومة بيني وبينك؟ قالت أبا حنيفة، فرضي هو به فجاءه فقال له: يا أبا حنيفة زوجتي تخاصمني فانصفني منها، فقال له أبو حنيفة: لِيتكلَّم أمير المؤمنين.. فقال المنصور: كم يحلُّ للرجال أن يتزوج من النساء؟ قال: أربع. قال المنصور لزوجته: أسمعتِ. فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين إنما أحلَّ الله هذا لأهل العدل فمن لم يعدل أو خاف أن لا يعدل فواحدة لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فينبغي لنا أن نتأدَّب مع الله و نتَّعظ بمواعظه . فسكت المنصور وطال سكوته، فقام أبو حنيفة وخرج فلما بلغ منزله أرسلت إليه زوجة المنصور خادماً ومعه مال وثياب، فردها وقال: أقرئها السلام وقل لها إنما ناضلتُ عن ديني وقمتُ بذلك المقام لله ولم أرد بذلك تقرباً إلى أحد ولا التمستُ به دنيا.
قصة رائعة تبين مدى فقهه ورجاحة عقله....
روي بأن الإمام أبو حنيفة كان في مجلس للإمام الجليل "محمد بن (زين العابدين) علي بن الحسين" الملقب بالباقر وذلك لتوسعه وتبقره في العلم، فأراد الإمام الباقر أن يمازح أبو حنيفة ولكن في صورة تأنيب فقال له: أنت من حول كلام جدي (يقصد بجده النبي صلى الله عليه وسلم) وقال ذلك الباقر لكثرة ما سمعه عن الإمام أبو حنيفة بأنه يعتمد الرأي والقياس في فقهه وقد كان كذلك، ولكن أعداء الدين كانوا يشوهون علمه وفقهه بالافتراء عليه وإنساب ذلك إلى القياس الذي هو منهجه حتى وصل الأمر ببعضهم إلى تكفيره رضي الله عنه، فرد أبو حنيفة وقال: معاذ الله أن أفعل ذلك فقال الباقر: بل حولته، فقال أبو حنيفة: والله إن لك حرمة كحرمة جدك صلى الله عليه وسلم، فتعال فاجلس ثم جلس أبو حنيفة بين يديه إجلالا له ثم قال: إني سائلك عن ثلاث كلمات فأجبني عنها، فقال له الباقر: قل، قال: أما الأول: من أضعف الرجل أم المرأة؟ فقال الباقر: المرأة، فقال أبو حنيفة: فكم سهم للمرأة، فقال الباقر: للرجل سهمان وللمرأة سهم واحد، فقال أبوحنيفة: إن كنت حولت كلام النبي صلى الله عليه وسلم فكان من الأولى في القياس أن يكون للرجل سهم وللمرأة سهمان لأنها الأضعف. أما الثاني: الصلاة أفضل أم الصيام؟ فقال الباقر: الصلاة، فقال أبو حنيفة: لو كنت حولت كلام النبي بالقياس لكنت قلت أن على المرأة الحائض أن تقضي الصلاة بدلاً من الصوم. أما الثالث: البول أنجس أم النطفة (المني)؟ فقال الإمام الباقر: البول، فقال أبو حنيفة: لو كنت حولت كلام النبي لكان من القياس أنه يجب الغسل على من يتبول والوضوء للجنابة، ثم قال: فمعاذ الله أن أحوّل كلام جدك صلى الله عليه وسلم، فقال الباقر: صدقت فاحتضنه وقبله على خده وأثنى عليه ثناءً حسناً......
.......فانظروا مدى علم وفقه الإمام "رحمه الله" ورجاحة عقله وحسن تعامله مع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم......
المفضلات