الهلال الفقهي !
هذه الأيام دار جدل لافت بين فقيهين سعوديين ينتميان إلى المؤسسة التقليدية الدينية.. الجدل تركز حول حكم الاعتماد على معطيات علم الفلك في إثبات رؤية الهلال، باعتبار أن رؤية الهلال هي المعول عليها في الفقه المتبع.
وقد درجت العادة على أن يشتد هذا الجدل في مدخل شهر رمضان ومخرجه، وهو جدل يخاض في الإعلام السعودي منذ سنوات.
الشيخان هما : صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى، والثاني هو عبد الله بن منيع، عضو هيئة كبار العلماء (أهم هيئة دينية سعودية).
وقد تجاوز السجال مجالس المشايخ إلى وسائل الإعلام، فيوم أمس نشر الشيخ المنيع ردا في صحيفة «الحياة» مهذبا، وواضحا، على الشيخ اللحيدان. ومما جعل الشيخ المنيع مباشرا في رده هو عبارات الشيخ اللحيدان التي يبدو فيها الحرص على قيادة التفسير والتأويل الفقهي بشكل منفرد، كما تجلى ذلك في رد المنيع على دعوة الشيخ اللحيدان من يتحدث في مسألة رؤية الهلال إلى أن: يدعوا أمور الشرع لأهل الشرع، وأن ينبذوا الهوى، وأن يثبتوا على الشرع ولزوم الجماعة وتقوى الله...». فرد المنيع: «هل أهل الشرع فئة محددة وبقية المسلمين ليسوا من أهل الشرع؟ هل صيام شهر رمضان وإنهاء صيامه وتحديد عرفة ويومي العيد خاص بفئة من أهل الشرع، أم هو لجميع المسلمين من أهل الشرع؟».
وأبدى الشيخ المنيع استغرابه من إستبعاد المعطيات والطرق الفلكية الحديثة في التعاطي مع مسألة رؤية الهلال، وهي مسألة، كما هي فقهية، هي أيضا من صلب علم الفلك، وكان مثيرا للاهتمام تعليق المنيع على نصيحة زميله اللحيدان، فقد قال المنيع :«ونصيحة فضيلته (اللحيدان) لإخوانه علماء الفلك، ومَن يرى من علماء الشرع الاستعانة بعلم الفلك، بأن ينبذوا الهوى، ويثبتوا على الشرع، ويلزموا الجماعة، ويتقوا الله ربهم. فنقول: جزاك الله خيراً يا أبا محمد على هذه النصيحة التي نحن وأنت محتاجون إليها، وسامحك الله إن كنت ترانا نتّبع الهوى، فأي هوى نتبعه؟ هل علم الفلك آراء شاذة لا يقول بها إلا من يتبع الهوى؟ أم هو علم له مقوماته وقواعده وأصوله ونظرياته، التي وصلت بالإنسان إلى أن يتخطى الأرض وغلافها ويصل إلى آفاق من الكون وغرائب الفضاء، واستكشاف الكثير من خصائص الكون وتركيباته؟ ونحن تجاه التشكيك في هذا العلم أو إنكاره كالنعامة تدفن رأسها في التراب وتنكر ما حولها».
ليس من شأننا هنا التوسع في هذه المسألة الفقهية، ولكن لم يكن من الممكن مقاومة هذه اللحظة السعودية القليلة الحدوث، وهي لحظة التكاشف والرد والسجال، بين رجلين ينتميان للمؤسسة الدينية التقليدية.
أما لماذا هي لحظة قليلة الحدوث، فلأن الطبيعة المحافظة تجنح دائما إلى إظهار الصورة بشكل كامل ومثالي، وبأن الجميع على رأي واحد، لا خلاف بينهم. وأيضا من دواعي الاهتمام أن التنوع في الرأي، والاختلاف في الاجتهاد، هو ظاهرة صحية، ودليل على ثراء المجتمع، فحينما تتعدد الاجتهادات، وتتنوع الاختلافات، فهذا دليل على عافية ثقافية، ونضج اجتماعي، لا يساوي الاختلاف في الرأي، بالخيانة أو المروق من خيمة المجتمع.
وإذن، فحسنٌ أن يختلف السعوديون، رجال دين، ومثقفون، ومفكرون، وأهل اقتصاد وسياسة، ما دام هذا الخلاف يدخل في حيز الاجتهاد، وتنوع زوايا النظر، واختلاف المعطيات المتوفرة لدى كل صاحب رأي، فكل يعتقد أن التأكيد على تلك النقطة هو الأهم، وهو معقد الحبل، في حين لا يرى الآخر ذلك كذلك.
هذا الخلاف العلني يشير إلى دلالات مختلفة، يضيق المجال عن قراءاتها، ولكنه ليس أول خلاف علني بين رجلين من رجال المؤسسة الدينية المحافظة، ففي شهر ابريل 2004 لم يوفر الشيخ صالح الفوزان، وهو احد أكثر المشايخ نشاطا في الرد ونقد المخالفين، في نقد زميله الآخر الشيخ عبد الله المطلق، على صفحات الصحف.
وماذا كان السبب ؟!
السبب كان أن الشيخ المطلق، في افتتاح ندوة (المرأة والعمل الدعوي بالمملكة) في 15 ابريل 2004، انتقد عدم مشاركة المرأة في برامج إذاعة القرآن، وهي إذاعة تبث المواعظ والتلاوات القرآنية على مدار الوقت، رافضا منع المرأة من ذلك بحجة أن «صوتها عورة» كما شجع على أن تشارك المرأة بالدعوة عبر «بعض الفضائيات الجادة»، وقال «نحن نحب ونشجع إذا رأينا في القنوات الفضائية مثل (...) وغيرهما برامج تشترك فيها النساء بالحجاب الإسلامي بالمعنى الثاني (أي بغطاء الرأس دون الوجه). وقال الشيخ المطلق «ينبغي لنا أن نفرح بأن 90% من النساء المسلمات يرين أن هذا الحجاب هو الحجاب الإسلامي الذي يؤجرن باتباعه»، مشيراً إلى أن الخلاف في شكل وحدود حجاب المرأة موجود منذ زمن الصحابة والرسالة النبوية وحتى الآن.
ونشرت مداخلته تلك صحيفة «الوطن» السعودية (16 ابريل 2004).
وبعد يومين، وفي نفس الصحيفة، رد الشيخ صالح الفوزان، مستغربا صدور هذه الآراء من الشيخ المطلق، وتعجب كيف يخرج هذا الكلام «من رجل ينتسب إلى العلم ؟!».
قائلا إن الشيخ المطلق استحسن خروج المرأة في الفضائيات داعية وهي كاشفة وجهها، ورفض الشيخ الفوزان ذلك «لأنها عورة وفتنة»، واعتبر الفوزان بأنه ليس صحيحا أن صوت المرأة ليس بعورة. وبعد هذا الرد بيوم واحد أرسل الشيخ المطلق تعقيبا لصحيفة «الوطن» شدد فيه على أن كلامه «امتدت إليه يد الحذف والتحريف» وأنه قد ساءه ذلك وطالب بنشر تعليقه «حيث التبس على كثير من الدعاة والعلماء الأمر وظنوا بأخيهم ظناً سيئا». لكن الصحيفة تمسكت بموقفها وقالت بالنص «ببالغ الاحترام والتقدير لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد المطلق، نشرنا رده(...) ونؤكد أن الموضوعات التي تناولها الشيخ ونشرتها الصحيفة نشرت بالنص(...). ولدى الصحيفة نسخة من الشريط تؤكد ما نشرته الصحيفة دون أن تمتد له يد الحذف أو التحريف».
حسنا.. الأمثلة كثيرة على هذا النوع من السجالات بين الفقهاء وأهل الشريعة أنفسهم، والمجال يضيق عن حصرها، وليس آخرها المعركة التي أثيرت ضد الدكتورة الفقيهة الأزهرية عميدة دراسات الشريعة العليا، سعاد صالح، حينما ناصرت الحجاب ضد النقاب.
ما يثير في هذا الخلاف هو النظر إليها بوصفها تعبيرا عن الجانب الواقعي والمتحرك من الفقه والشريعة، فهناك «عقول» بشرية ومشارب اجتماعية، ووضعيات سياسية، توجه مسار اجتهاد الفقيه، وتحكم عملية الفقه والتفقه، فالفقيه ـ في نهاية الأمر ـ كائن منفعل بالواقع، فاعل به، ومتأثر بظروفه هو، فقد تكون «فتواه» مع التحريم أو الإباحة، عكس فقيه آخر، ولكن لا يعني ذلك أن الاثنين خاليان من أية تأثيرات محيطة بهما، أيا كان مصدر هذه التأثيرات، وهذا شيء طبيعي بوصف الفقيه «إنسانا»، وبوصف التفقه يساوي حصيلة التفاعل بين عقل الفقيه ونظره من طرف، والنص الديني من طرف، والواقع وضغوطه ومتغيراته من طرف آخر.
ولذلك، ومن هنا ربما، قال أحد علماء السلف، وهو يحيى بن سعيد القطان: «ما برح أولوا الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه». كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء.
لكن أهل الشعارات، الذين يرفعونها بدون أن يفقهوها، يتعبوننا ويتعبون أنفسهم، حينما يرفعون شعارات صماء، لا ينفذون إلى مساماتها ونسيجها الداخلي ليخبرونا : ما هي الشريعة بالضبط ؟ وأين أصابع الواقع فيها، وأين «اجتهاد» الفقيه ؟ وأين ضغط الواقع واعتبارات المصالح وحساباتها؟.
الجميل في مداخلة الشيخ المنيع هو إشارته المهمة حول أن رؤية الهلال ليست شأنا يخص أهل الشرع وحدهم، بل شأن له جوانب أخرى تتعلق بأهل اختصاص آخر، هم أهل الفلك، وان صيام رمضان يخص المسلمين كلهم وليس أهل الشرع فقط.
الأمر الذي يقودنا إلى السؤال : أليس الاقتصاد أيضا علما، له أهله، وفيه نظرياته، وله قوانينه وثقافته وقواعده، ويهمُّ الناس كلهم ؟ وكذلك الطب النفسي، والسياسة وعلومها، والتربية ونظرياتها....
أليست كل هذه المجالات، كما انه لها «نوافذ» على الدين، فلها «أبواب» على مجالاتها الأصلية، أبواب يعرف مفاتيحها ومغاليقها أهل الاختصاص؟.
ليت هذه الملاحظة الجديدة، والمثيرة، تهطل على كل هذه البقاع التي اشرنا إليها.. حتى لا تعوق الحشائش زهر الربيع ونواره من الطلوع
للكاتب:مشاري الذايدي
المفضلات