السلام عليكم والرحمة ،،،
اعود لأستكمل معكم احداث الرواية عن قصص اهل قفار الغامضة والمحيرة !!
قصة قصـــــر غيّاض .. قصة ظلما اللـي تاكل الرجاجيل
وغيرها وغيرها الكثيـــر !!؟
وقعت الواقعة التي كانت شرارة الدمار والمأساة القفارية!!.
- وكيف حدث ذلك؟!!.
- قام أهل قفار بالاجتماع لبناء سور حول مدينتهم لتحصينها من الأتراك الذين كانوا يتهجمون عليهم ويأخذون من نتاج بساتينهم بدون إذن منهم، ولحمايتها من بعض الغزاة الذين ينتهزون الفرص للتربص بأهل قفار ومزروعاتهم ليلاً، والذي لا يفيد معهم حمل بنادق (العصملي)* لأنه لا يمكن استخدامها ليلاً !!، وكان يتزعم أهل قفار صاحب هذا القصر (غياض)*، كانوا مجموعة كبيرة من البنائين والخلاطين ومساعديهم من الرجال والصبيان، أشبه بخلية نحل تعمل طوال النهار يعملون بجد ونشاط، ويغنون بفخر لشحذ الهمم لتتمة البناء، وكانت تراقبهم الحامية العثمانية التي أقامت لها قصراً صغيراً شرقي مدينة قفار، ولما رأى قائد الحامية إصرار أهل قفار على تشييد ذلك السور أرسل لهم رجلين ليبلغا أهل قفار أمره بمنعهم من البناء، ووجوب التزامهم بالتوقف حالاً عن مواصلة بناء السور حول المدينة، ولكنهم لم يمتثلوا لأوامر (الباشا) بل قاموا بالرد عليه ردا قاسياً وعنيفاً حين قال رئيس البنائين، وهو على حائط السور وكأنه يغني:
- (عدوا لبن، عدوا طين، عدوا حدا الرجاجيل!!) أي أمسكوا بأحد الرجلين من مناديب الحامية التركية لنبني عليه الجدار، ودعوا الآخر يهرب ليبلغ قائده بالرد عليه عن عزمنا على تحصين مدينتنا، وفعلاً حملوا أحد الرجلين وقذفوا به في وسط السور وبنوا عليه الجدار وبقيت جثته وعظامه تروي تلك الحادثة في بطن ذلك السور الضخم، إلى أن تهدم بعد أن رحل أهل قفار عن مدينتهم بسبب وباء (الحمى) القفارية المعروفة0
وعند ما شاهد المرسال الآخر عملهم برفيقه فر هارباً، ليبلغ قائده بما حدث ولكنه صار يهذي قبل أن يصل إلى القائد، كان يسير بين الجنود وهو يقول:
- ماذا أقول عن أهل (كفار)... إنهم قساة وأقوياء كالجمال الهائجة، لقد شاهدت العبيد يحملونه بأمر أميرهم ويرمونه وسط الحائط ويبنون عليه الجدار وهو يصرخ بأعلى صوته، ثم بعد ذلك صار يخور كالثور إلى أن انقطع نفسه، ماذا نقول لأهله.. مات؟ لا.. قتل ؟. لا.. وبعد مدة من الفزع انتهى به الأمر إلى الوسواس، فأمر القائد بحبسه كي لا يدب الرعب بين الجنود، وجلس القائد يفكر- ماذا يفعل مقابل هذه الفعلة القاسية التي حلت بأحد جنوده؟، فلو هجم على هذه القرية فإنه سيثير حفيظة الناس المتربصين به وبجنوده؟ ولوترك هذه الفعلة تمر هكذا مات قهراً!!. لذلك قرر أن ينتقم من أهل قفار بطريقته الخاصة!!.
دهش سعد لهذه الرواية فقال:
- وهل يعقل أن يبنى عليه الجدار وهو حي؟ !!.
قال خلف:
- أقسم بالله إنني شاهدت عظامه في باطن السور الشرقي لقصر غياض!!، لقد أذاق الأتراك الناس القهر والهوان، فلم يحتملوا كل ذلك فحاولوا أن يقاوموا بطريقتهم التي استطاعوها عليها.
قال سعد موجهاً كلامه لعمه، وخارجاً بالحديث عن هذه القصة المثيرة:
- هل يعرف أحد متى نشأت هذه المدينة الغريبة ومن أنشأها؟.
قال له عمه (حميد):
- أنا لا أعرف بالضبط متى نشأت مدينة قفار، ولا كيف، ولكنني كنت أسمع روايات كثيرة عنها مختلفة أظنها من صنع الخيال والروايات والأساطير، تأتي خلال قرون، كما أن معظم أهلها الذين قويت في عهدهم كانوا من بني تميم ووفدوا إليها من مناطق عديدة، وكان أهلها السابقون من قبائل بني أسد وطي ومن قبلهم جديس- وكانوا غير قادرين على -تعميرها، أو غير راغبين، فعمرها التميميون من ناحية، وقوم من بني خالد من ناحية أخرى وبع ض عبيد أهل البلدة القدماء الذين صاروا من الأتباع ثم جاء عدد من العبيد، للقيام بفلاحة بساتين بعض الأمراء، وكان أهل قفار يعملون بالفلاحة والتجارة والرعي، فتكونت لديهم ثروة طائلة، فقاطعه سعد قائلاً:
- كم مضى على قدوم هؤلاء إلى قفار؟.
- الله الذي يعلم يابني... ربما قبل ثلاثمائة أو أربعمائة سنة لا أدري...
فقاطعه خلف الذي يجلس بينه وبين سعد في مقدمة السيارة قائلاً بسخرية:
- هه... ثلاثمائة سنة!!، ياهم لا لي!!.
فالتفت حميد ناحية خلف وتمعن في عينيه الجاحظتين وقال وهو يبتسم:
- ماذا تعني... تقصد أنه أقل أو أكثر من ثلاثمائة سنة؟
فرد خلف بصورة جازمة وعيناه جاحظتان كالمعتاد:
- أقصد أن قفار قديمة جداً... لأنه من بداية الحمى إلى اليوم أكثر من مائةٍ وخمسين سنة، وقفار مدينة من عهد بني تعمر !!.
فقال حميد والابتسامة لا تزال ترتسم على وجهه الأسمر:
- مَنْ هم بني تعمر ومتى هم بني تعمر يا مسكين !!.
- بني تعمر هم الذين عمروا قفار وغيرها، وحفروا هذه الآبار المطوية بالحجارة هم طي- جاءت منهم تسمية طوي الآبار بالطي وهم اللي بنو القصور بالصخور في أعالي الجبال يالمسكين أنت!!.
فقاطعه حميد بحدة وقد لمعت عيناه:
- بني تعمر قبل الإسلام يا مسكين!! ، وقفار ما بنيت إلا توه.. قريب... عندي بهذا !!، وهذه أول مرة أسمع أن تسمية طي جاءت من طيهم للآبار!!.
- المسكين والله أنت ياحميد، تقول إن قفار عندك بهذا!!. بداية قفار (يم عين جدي) ما أحد يدري متى.
فقال حميد:
- غلطان... مادام ما أحد يدري متى، كيف عرفت؟
فرد خلف عاتباً:
- أنا غلطان؟
قال حميد بشيء من الإصرار:
- نعم غلطان وقاطع جادة، تقدر تقول لي عين جدك كم له من سنة؟، نعم أنت غلطان ونصف !!.
فقال خلف مبتسماً وعيناه كماهما:
- من يقول !!
قال حميد مباشرة:
- أنا أقول!!
قال خلف هازلاً:
- أنت والله وما قالت بنت الحايك لبوها !!0
قال حميد، وهو ينظر في وجه خلف، الذي ترتسم عليه ابتسامة ساخرة:
- وش قالت بنت الحايك (لبوها)؟
قال خلف وهو يضغط على ذراع حميد:
- أنت خابر وش قالت (لبوها)، وبس!!
فضحك الجميع، والسيارة تنهب الطريق الترابي الذي افترق إلى اتجاهين واضحين فقال خلف مشيرا بيده ناحية واد مظلم يتجه إلى داخل الجبل:
- في داخل ذلك الريع (غار ظلما)، التي كانت تأكل البشر والعياذ بالله، وقد خرجت من قفار واختبأت هناك !!..
قال سعد:
- ياللعجب ومن تكون ظلما هذه؟.
قال خلف:
- يقال بأن ظلما امرأة من قفار، ويقال بأنها من أهل هذا الجبل، تزوجت برجل في قفار أنجبت منه بنتاً وبعد ذلك اختفى الرجل، وصارت تسير في أسواق مدينة قفار عند الغروب، وتنادي بأعلى صوتها (من عين أبوبنتي)، وفقد الناس الأطفال الصغار الذين يختفون في تلك الساعة، فشكوا بأمر المرأة، وصاروا يردون عليها بقولهم (من عين الوليد الصغير)، فتنبهت للأمر، فهربت مع ابنتها إلى ذلك الجبل، واتخذت من غار فيه يطل على طريق الرائح والغادي، بحيث تكشف القادم قبل أن يكتشفها وتتأكد إن كان يحمل سلاحاً أم لا، وإذا تأكدت من قدرتها عليه أرسلت ابنتها لتناديه ثم تجرى هاربة نحو الغار، وتتسلق الغار من الخلف بينما أمها العجوز تجلس في وسط الغار منكوشة شعر الرأس، وعند ما يصل الرجل عابر الطريق إلى فم الغار يجد الفتاة وقد تحولت إلى عجوز شمطاء، فيتوقف مدهوشاً ومبهوراً لهذا المنظر المفزع، وتكون الفتاة تطل عليه من فوق الغار حاملة معها صخرة تفلتها على رأسه أثناء وقوفه بباب الغار، فترديه قتيلاً.
قال سعد:
- وهل يعقل ذلك؟.
قال خلف:
- هذا ما سمعناه، وتكوين الغار يصدق تلك الرواية.
قال سعد:
- وهل أمسك بها؟.
قال خلف:
- أمسكوا بها، وسألوها كيف تمسك بالرجال فقالت: بأن الرجال ثلاثة هم (رجل، ورجيل، ورجرجة)، أعرفهم من بعيد، فالرجل أجتنبه من البداية، بل أهرب منه إلى قمة الجبل، وأما الرجيل فإنني أحياناً أصيده بمصيدتي، وأحياناً يفلت مني وأحياناً أتركه من البداية، أما الرجرجة فهذا غايتي ومرادي، سهل الصيد بلا عناء!! قال حميد وهو يضحك :
- لقد رجتنا السيارة مع قصة ظلما فضيعنا الطريق !!.
قال خلف:
- بعد أن تجتاز الجبل تيامن يا سعد.
فقال حميد:
- لا.. الدرب يسار!!.. توقف يا سعد، لقد تشابهت علينا الدروب... توقف الله يهديك، جاب خلف طاري ظلما فضيعنا الطريق!!.
قال خلف:
- لنا العذر إذا ضيع ذكر ظلما علينا الطريق، لقد كانت تأكل الرجال !!. أوقف سعد السيارة ونزل حميد متطلعاً إلى السماء لينظر إلى النجوم للتأكد من الاتجاه الصحيح للطريق، فاستيقظ الذين كانوا في حوض السيارة الخلفي وجلسوا في أمكنتهم وهم يتساءلون عن سبب توقف السيارة؟.
فقال لهم حميد:
- لقد افترق الطريق ونرغب التأكد من الاتجاه.
قفز أحدهم بسرعة ليتطلع إلى النجوم كي يفوز بأخبارهم بالطريق الصحيح لكنه اصطدم بعارضة السيارة وعاد جالساً في مكانه، ممسكا برأسه فقال أصحابه:
- سلامات... سلامات
قال:
- سلامات إن شاء الله.
قال حميد:
- سلامات.. من الذي ضربته العارضة؟
فرد عليه الذي اصطدم بالعارضة قائلاً:
- أنا أنا... عايد!!
رد عليه حميد:
- سلامات يا عويد، هذه هي العادة، الله يهديك.. دايم عجل.. ودايم تتعثر الله يستر عليك. وواصل حميد كلامه للجميع:
- امرحوا هذه الليلة في هذا المكان، المبيت أفضل، فالغيوم قد حجبت النجوم وأظن أن الطريق الذي تيامن يذهب إلى (موقق) والطريق الذي اتجه يساراً إلى الشقيق، وشمالا عنا الآن جبل متالع، دعونا نبيت والصباح رباح، هيا ابتعد بسيارتك عن الطريق يا سعد.
نزل الجميع وأوقدوا النار، استعداداً لتجهيز القهوة والعشاء، وتفرقوا هنا وهناك، منهم من يجلب الحطب ومنهم من يتـنـزه بعيداً عن المراح*، كان عايد أو عويد، كما يحلو لهم تسميته أسرعهم لإحضار (معاميل) القهوة، وأواني الطبخ ووضعها حول النار، جاء مطلق (أبو حمد) بغمر من الحطب ورماه بجوار النار، فقال خلف: - عشت... ولبست البشت!!.
وقال عويد ضاحكاً وهو يحمس حبات القهوة بالمحماسة:
- عشت وعشعشت ومليت العش فريخات !!.
وجاء محمد وهو يحمل جذع طلحة كبير، وضعه مباشرة على النار ثم انضم للجالسين، الذين تحلقوا حول النار المتقدة، حميد وخلف وصالح، ثم مطلق وسعدوفالح، بينما عويد يحوف المعاميل، وأواني الطبخ، قال أبو حمد متمثلاً بقول الشاعر محمد القاضي:
دقه بنجر يسمعه كـل مشتاق * * * راع الهوى يطرب ليا دق بخفوق
فقال عويد متجاوباً معه:
- أبشر دقيناه !!، نبي مثل ما قال:
اليا انطلق من ثعبته تقل شبراق * * * ودم جوف ليا انطلق منه معلوق
فوضع القهوة المحموسة بالنجر الماو الأصفر، وأهوى عليها بضربات متتالية، قارعا جانب النجر بعد كل ضربتين متتاليتين وهو يبتسم.
فقال خلف:
- (يامال الصقه خرقت آذاننا وسط هالليل)، ماحولك أحد على هونك، على هونك ياعويد، ادعك القهوة دعك خل (صلبخة) النجر بالنهار ماهو بالليل.
ولما لم يرد على اعتراضه أحد رفع صوته بالغناء:
ياشوق فرع وقـض الــراس * * * خـل الأزاريـر دلاعــه
أغدي بشوفك يـزول البـاس * * * واملا النـظر منك لوساعه
انتظر أن يجاوبه أحد من الجالسين ولكنهم لم يفعلوا، فقال ضاحكاً:
- فرع ياعويد خلنا نشوف صوابرك.
فضحك الجميع وهم يتناولون حبات من التمر، قبل القهوة التي فاحت رائحتها الطيبة حين بدأ بصبها لهم عويد، يسوقها من اليمين فيأخذونها بالتتابع.
قطع الصمت سعد متسائلاً :
- تقولون بأن هذا الطريق الذي تياسر يتجه إلى الشقيق؟، وشمالاً عنا جبل متالع؟. قالوا:
- نعم.. يتجه إلى الشقيق.
قال سعد:
- الشقيق هو مورد زيد الخيل، الذي أسماه الرسول (صلى الله عليه وسلم) زيد الخير.
قال خلف:
- وخير ياطير ولياصار مورد زيد الخيل!!، وش صار، ومن يقول هذا الكلام؟ قال سعد:
- أنا الذي أقول ذلك، استناداً إلى كتب التاريخ وشعر زيد الخير.
فتجاهل خلف قول سعد وقال:
- ياعميمي ياعويد، هي بكيرة والا قعيّد؟.. هها وأين العشا؟.
فقال عويد:
- أبشر ياخلف جدي.. اصبر شوي وينضج العشا وتشوف هي بكيرة أو قعيد!!0
ضحك الجميع على هذه المحاورة الطريفة، أما سعد الذي لازال مشغولاً بقصص أهل قفار. فقال لعمه:
- الذي يحيرني من أين لأهل قفار كل تلك الأموال التي عمروا بها مدينتهم بقلاعها وقصورها وأسوارها، وبساتينها؟.
قال عمه:
- سمعت أساطير تقول بأنهم اكتشفوا كنوز (بزاخة) التي كانت مقراً لأصنام طي وتقاسموها وعمروا مدينة قفار التي لا تبعد عن بزاخة كثيراً !!.
قال سعد:
- وما معنى كلمة قفار؟
- قال لا ندري عن معنى كلمة قفار إلا إذا كانت جمعاً لقفر، والقفر الأرض التي ليس فيها أنيس من البشر !!.
فقال خلف بضيق:
- مللنا من كثرة كلامكم عن قفار وأهل قفار، الذين أنعم الله عليهم، ولكنهم تجبروا في قريتهم وعملوا أعمالاً كثيرة ، ولم يذكر أحد أنهم حصلوا على كنوز من بزاخة ولا غير بزاخة. قال سعد مندهشاً:
- وكيف كان كل هذا العمل وليس لديهم أموال للقيام بكل تلك القصور والأسوار. فواصل خلف حديثه قائلا:
- يقال بأنهم حفروا الآبار القديمة في هذه الأرض القفر، أو القفار فوجدوا المياه الوفيرة فغرسوا في بساتينهم الأشجار الكثيرة والنخيل والمزروعات، فأزهرت قفار وتوفر لدى أهلها المال الكثير والطعام وجلبوا لأنفسهم الخدم والعبيد، ليقوموا بفلاحة الأرض وتعميرها، فصارت قفار كالجنة الغناء تغرد طيورها، وتمرح خيولها، ويتمتع أهلها بنعيم الدنيا لا يشغلهم شيء سوى البحث عن المرح، ففي أبسط المناسبات تقام الولائم وتقرع الطبول ويأمرون عبيدهم بالغناء، طوال الليل والنهار. قال سعد مندهشا لهذا الكلام الغريب:
- ومن قال لك هذا، هل شهدت عليه بنفسك؟!!.
فرد عليه خلف:
- لم أشاهده بنفسي ولكنني سمعته من العجائز، مثلما سمعه عمك، ولكنك لا تصدق إلا عمك، أما خلف فإنك ترتاب في كلامه !!، لذلك فلن أحدثك بشيء عن قفار وأهل قفار.
فقال سعد معتذراً وطالباً من خلف مواصلة الكلام عن هذه المدينة الخراب التي أذهلته وشدت تفكيره إليها، منذ مشاهدته الأولى لها:
- المعذرة، فشدة حماسي لروايتك دفعتني للتأكد، وطلب المزيد من رواياتك الممتعة!
فاعتدل خلف وهو يقول :
- أجل اسمع، يقال بأن هذه المدينة كانت تنتج من الثمار مالا يوجد له مثيل من النخل والأعناب والتين وجميع الثمرات الطيبة، وكان ذلك بفضل من الله ثم جهد وعناية أصحاب الملك وحرصهم على متابعة أعمالهم بأنفسهم وعبيدهم ومعاويدهم يكدون لا يملون من الكدح المتواصل، وأحيانا يستدينون في المواسم ويسددون ديونهم وقت الحصاد، وربما كان ذلك استدراجاً لهم من ربهم، ففي موسم من مواسم صرام النخيل، جاء دائن يسوق حماره إلى الذي استدان منه من أهل قفار حسب الوعد المضروب بينهما، ولكن الدائن أصيب بخيبة الأمل والإحباط عندما شاهد النخيل قد صرمت ولم يبق سوى نخلة واحدة، فعاتب صاحبه على عدم الوفاء بالوعد، ولكن المدين طمأنه بأنه سوف يسدد له دينه من التمر بالكامل، فاشتط بالدائن الغضب ظاناً أنه يسخر منه عندما أشار إلى النخلة الباقية، وقال له بأنها سوف تسدد كامل دينه، فتلاحيا وقال المدين لصاحب الدين، بأن عذقا واحداً من هذه النخلة أثقل من حمارك هذا الذي جئت لتحمل عليه دينك من التمر المطلوب مني، فلم يصدق، فتراهن الاثنان، واجتمع الناس حولهما، وشهدا مجادلتهما الطريفة ورهانهما على أنه إذا عدل العذق بالحمار فان صاحب الدين سوف يتنازل عن دينه وحماره للمدين، فصعد أحد العبيد النخلة (الحمراء) وأدلى الحبل ليربط بالمدلى الذي وضع فيه الحمار، وربطه بعذق النخلة ثم قصه العامل فانزلق العذق باتجاه الأرض ورفع الحمار إلى فرع النخلة، فصاح الدائن أن أنقذوا حماري ولكم تمركم فوضعوا العذق على الفراش وأنزلوا الحمار على مهل إلى أن وصل الأرض بسلام، فحملوا عليه التمر الذي يمثل دين الدائن، ومن ذلك الوقت سميت تلك النخلة بـ (حمراء الحمار) لأن قنوها الثقيل رفع الحمار إلى فرعها بسبب ثقله.
ولم تقتصر جودة الثمر في قفار على التمر وحده، بل كان للتين والرمان والعنب القفاري شكل وطعم لذيذ ومميز. وتابع خلف حديثه قائلاً بحماسة:
- ويروي لنا كبار السن أنه لم تكن هناك بلدة من بلدان الجبل تعيش بسعة وسعادة مثل ما كانت تعيش بلدة قفار التي بطر أهلها بأنعم الله، وقست قلوبهم فكان همهم الأكبر هو الفرح والمرح واللهو ليل نهار، والضحك لأتفه الأمور، وقد يختلقون الأسباب التي تثير الدهشة والضحك، قيل بأن صبيانهم ينـزعون الريش عن الدجاجة ويتركونها تجري أمامهم.. فيضحكون لمنظرها حتى يستلقوا على الأرض، وقيل بأنهم يحلقون التيس ويدخلونه على البيوت فيفزع الأطفال والنساء ، وكان شيوخهم يبكون خوفاً من نقمة الرب.
وقيل بأن أحد سادة قفار في ليلة من ليالي الشتاء الباردة، طلب من أحد عبيده إحضار ماء له ليغتسل، فذهب المملوك وأحضر الماء لسيده، وعندما لمسه بيده وجده بارداً فسأل العبد قائلاً:
- من أين أحضرت هذا الماء يا سعيد؟ !!
فقال:
- من الجابية يا (عمي).
فنهض السيد وطلب من سعيد أن يتبعه، وعندما وصلا إلى (الجابية)، أمسك بسعيد وقذفه في الجابية، ثم عاد وتركه هناك، وظن سعيد المسكين الذي يرتجف وسط البركة أن عمه يريد أن يبقيه في ذلك المكان باستمرار فلم يتحرك، وفي الصباح سأل السيد عن عبده سعيد فلم يجده فعاد إلى الجابية التي رماه فيها ليلة البارحة فوجده قد مات متجمداً في تلك البركة الباردة، فبكى نادماً على مافعل. قال الناس الكثير عن أهل هذه القرية، خاصة بعد أن أغضبت الباشا العثماني ولم تمتثل لأوامره وعجرفته المقيتة في إيقاف بناء الأسوار. قالوا بأن شبابهم يختالون بملابسهم (المرودنة) البيضاء، بغرور في المساجد، كانت أجسامهم قوية كالجمال في فصل الربيع، يزرعون ويتنافسون في الإنتاج والقوة، ويدعي كل واحد منهم أنه (شمشون)، وكل حارة من حارات البلدة كانت تدعي بأنها أمة من الأمم، دب التنافس فتغذى بالحقد والحسد، فإذا غرس أحدهم شجرة غرس الآخر عشراً، وإذا بنى حائطاً قصيراً بنى جاره حائطا أطول منه ثلاث مرات، وإذا بنى أحدهم داراً شيد جاره الآخر قصراً، شباب يتفجر صحة وعنفواناً وفخراً، وكان علية القوم يغذون هذا التنافس الذي تحول إلى حسد وكراهية حلت محل المودة وصلة الرحم، مما حدا بإحداهن أن تقول:
الما غدوبه عن عمامي خوالي * * * ولعن أبوكم أذبحوهم ولو بوق
الما غدوبه متعبين المحالي * * * مثل العساكر بالضبط لجته فوق
وفي يوم شتوي بارد احتد النقاش بين أهل القرية وتحول إلى جدال ثم تحول الجدال إلى شجار، ثم إلى قتال بين الفريقين من أهل قفار، أدى إلى تقاتلهم، وكان صاحب القصر، غياض، ثرياً لديه من المال الشيء الكثير وعدد من البساتين والقصور والعبيد والخدم الذين يقومون بزراعة البساتين وسقيها، وكان غير مسرور بما حدث لقومه من الاقتتال، ولما لم يستطع إيقاف التنازع والتقاتل ذهب إلى القائد العثماني وشرح له الأمر، وما لحق بقومه من الضرر بسبب التناحر، فضحك القائد التركي وقال:
- (برافو... برافو... قفار.. برافو)
ثم تساءل القائد التركي عن عدد القتلى قائلاً:
- (برافو.. كم نفر موت؟).
فتساءل صاحب قصر غياض:
- ماذا يعني بهذا الكلام؟.
قال له الذي يجلس بجواره:
- إنه يقول هذا شيء ممتاز، وكم عدد القتلى؟
قال صاحب القصر (غياض):
- قل له عدد القتلى خمسة عشر، وهذا شيء محزن، لازم يوقف القتال !!.
ولما قال للباشا بأن عددهم خمسة عشر قال الباشا:
- خمسة عشر مقابل الذي مات في السور قليل0
ولما سمع صاحب قصر غياض الإجابة خرج غاضباً وجمع قومه، وأمرهم بمنع الأتراك من الدخول إلى مدينتهم، ومنعهم من شرب الماء من آبارهم، وأن على الأتراك جلب الماء من عيون الجبل على جمالهم أو من أي مكان آخر، فقد تسبب الأتراك في مشاكل في قفار وعاثوا في البلاد.
يقال إن قومه سألوه عن كيفية منع الأتراك من الدخول إلى بلادهم، فأمرهم بإغلاق البوابات ليلاً، وتعقب أي جندي تركي يدخل بلدتهم نهاراً وقال:
(نجلس في بساتيننا ونأكل من تيننا ونشرب من جوابينا، ونذبح اللي يجينا).
قال حميد لعايد:
- هات العشا يا عايد... ياصدوق الوعايد نبي نتعشى ونغط لنا غطة قبل الفجر. قدم لهم عايد العشاء، وبعد أن فرغوا من الطعام ذهب كل واحد منهم لإحضار أغطيته لينام فتمددوا على الأرض وارتفعت أصواتهم بالغطيط المزعج، بينما قام عويد بدفن الجمر بالرماد والملة(7)، ليورث النار(8) عند قيامه في الفجر، ثم وثب إلى حوض السيارة الخلفي ونام متمدداً بدون غطاء على بقية العفش.
مر ثعلب حول مراح النائمين، وعندما اقترب منهم سعل حميد ففر الثعلب فسمع عايد حركته، فنهض والتفت ناحية الحركة وإذا بشيء معتم يتحرك بسرعة من بعيد، ثم عاد لينام من جديد. مر الوقت سريعاً، حلم سعد أن السيارة تسير مسرعة في وسط الصحراء بدون سائق يوجهها، فاستيقظ وهو يقول:
- (بسم الله الرحمن الرحيم اللهم اجعله خير).
فاستيقظ عمه حميد وقال بصوت مبحوح:
- وش فيك ياسعد؟!!.
فقال سعد بعد أن سعل سعلة خفيفة:
- أحلام ليل يمحوها النهار!!.
فرد عليه عمه:
- خير إن شاء الله، أظن أنه حان وقت صلاة الفجر.
قفز عايد من حوض السيارة وهو يقول:
- نعم حان وقت الأذان، انهضوا صلوا... يا الله قوموا للصلاة.
كان يقول ذلك وهو يزيح الرماد عن الجمر ويدس بعض الأعشاب اليابسة في باطن الجمر وينفخها، لتشتعل من جديد0
اشتعلت النار ووضع عليها الحطب فتصاعد الدخان من فوق اللهب، ولامست الأنوف رائحة الحطب، وصب ماء في طاسة معدنية، ثم صب جزءا منه على يديه وغسل وجهه لينتعش ويطرد بقايا النوم التي هربت من برودة الماء ونسيم الصباح . استيقظوا جميعاً وعمل الآخرون كما عمل عايد، بينما خلف يؤذن لصلاة الفجر ثم تعفر بالتراب وبدأ يصلي صلاة السنة، وبعد أن فرغ من صلاته صار ينادي رفاقه واحداً تلو الآخر للصلاة، وكأنه يوقظهم وهو يعلم أنهم جميعاً قد استيقظوا ولكنها طبيعته الملحاحة والعنيدة التي درج عليها، سمع أحدهم يسأل عن الماء فبادره بالقول:
- تعفر يارجل تعفر... من اليوم ورايح يجوز لنا العفور إلى أن يتوفر لنا الماء بكمية كافية (طق عفور والرب غفور). قال الذي يسأل عن الماء:
- إذا حصل الماء بطل العفور !!.
فقال خلف بحده:
- الله يهديك تعفر... اترك الجدال نبي نصلي، لا تفوتنا الصلاة، نبي نمشي الطريق طويل !!، (الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله000) أقيمت الصلاة. وبعد الانتهاء من الصلاة تحلقوا حول النار وقدم لهم عويد التمر، وصب لكل واحد منهم فنجاناً من القهوة المرة، وبعد ذلك صب لكل واحد منهم فنجاناً من الشاي والحليب، وقدم لهم صحناً به حبات من (الكليجاء) اللذيذة. ولم يلبثوا أن ركبوا سيارتهم التي انطلقت بهم باتجاه الغرب، قبل شروق الشمس، كان النسيم يداعب وجوههم بارداً منعشاً وطرياً، وامتد الأفق الغربي أمامهم محملاً بالغيوم التي تلامس التلال الرملية من ناحية الشمال، والمرتفعات الجبلية الصغيرة من ناحية الجنوب. كانت السيارة تنطلق مسرعة بالراكبين باتجاه الأرض القفر التي ترتع في سهولها وجنباتها الظباء، لازال الوقت باكراً، حين اجتيازهم لتلك الوهاد والمرتفعات الخالية التي ترتسم آثار عجلات السيارة عليها بخطين متوازيين بتعرجاتها اللينة الجميلة بدت الأرض مستوية كراحة الكف، وفي نهايتها خط أزرق غامق متعرج صار يكبر ويكبر إلى أن تحول إلى جبل بعيد (جبل المسمى)، ثم صار ذلك الجبل ينقسم إلى عدة جبال كانت تبدو من بعيد وكأنها جبل واحد، بينما هم يحثون السائق على الاتجاه إلى جبل تحتضنه النفود من جهته الشمالية، سمعهم يقولون بأن اسمه خشم (الحصان)، قال سعد متسائلاً:
- وهل يوجد صيد وفير في هذه المنطقة الآن؟ !!.
فبادره عمه بالإجابة:
- يشهد الله أنه قبل خمس سنوات كانت الغزلان مثل رعايا الأغنام، ترتع في هذه السهول التي عن يميننا وعن يسارنا، ولكن الناس قضوا عليها وفرقوها بالطرد بسياراتهم وبنادقهم الحديثة التي لا تبقي ولا تذر، ولكن المنطقة لا تخلو من بعض جمايل الغزلان في السهول البعيدة والأرانب، وغزلان الجبال (الوعول) والوبران في قمم الجبال. وتابع قائلا: ندر الصيد بسبب كثرة الناس.
قال خلف موجهاً كلامه إلى حميد (عم سعد).
- أظن سعد سوف ينسى حكاية قفار وأهل قفار عندما يشاهد الغزلان الرتع في هذه السهول الخضراء المزهرة.
فكأنما أيقظ سعدا من سبات، فالتفت قائلاً:
- نعم.. نعم ذكرك الله بالشهادة، نعم يا عمي ماذا حدث لأهل قفار؟.
فقال عمه وهو يبتسم:
- السالفة عند خلف عن أهل قفار وبطرهم كما يقول !!.
قال خلف:
- نعم بعد الانتهاء. من تسوير البلدة ومنع الأتراك وغيرهم من الدخول تكاثرت المنتوجات، وتفجرت الأرض وينابيعها بالنعم، وتدلت الثمار اليانعة التي تنتظر القطاف، فصاروا يقطفون ويأكلون، ويبيعون ويشترون، فطفحت النعمة وظهرت
على كل إنسان، الرجال يتحفزون للوثوب على كل من يتحرش بهم، والنساء كالظباء يلاعبن أظلتهن وصورهن في مياه الجوابي، والأتراك خلف الأسوار يحومون بحنق كالذئاب الجائعة، وأهل قفار يتوجسون خيفة من هؤلاء الأغراب المتسلطين، فأرسلوا إلى الحاكم يستنجدونه، ولكنه كان أشد حاجة منهم إلى النجدة، كان الأتراك يفرضون على الحاكم أن يجبي لهم الزكاة من البادية ومن القرى، ويفرض على الناس (الودي والخاكور)*، فيفر البدو في الصحراء مثل الطيور، ويبقى أهل القرى يفرض عليهم أضعاف ما يجب عليهم، بسبب هروب البدو في البيداء، لذلك سور أهل قفار بلادهم عن الأتراك وعن أبناء عمومتهم الرحل عندما تجف الصحراء ويتجهون إلى (حضران ورقة)، ينهبونهم ويحاولون أن يفرضوا عليهم سوق (الخاوة)* نظير حمايتهم من غزاة آخرين !!. قال سعد مستغرباً:
- يحمونهم؟ ممن يحمونهم؟ إذا كانوا هم يهربون إلى الصحراء خوفاً من الأتراك فكيف يحمون (حضر ورقة المساكين).
فقال خلف ضاحكاً:
- يحمونهم من أنفسهم؟
فقال سعد مستغرباً:
- كيف يحمونهم من أنفسهم ويأخذون منهم حق الحماية (الخاوة)؟.
فقال خلف:
- يعني أنهم يقولون للحضر أعطونا بطيب خاطر أو نأخذ منكم عنوة !!، ننهبكم نهباً، فيعطونهم، خوفاً منهم أحياناً، وليحتموا بهم من القبائل الأخرى التي سوف يتركونها تهجم عليهم إذا لم يدفعوا لهم (الخاوة)، وينشب بينهم أحياناً القتال.
فقال حميد مؤيداً ماقاله خلف:
- نعم كانت قفار غنية مجلبة لطمع الطامعين، ومثيرة لحقد الحاقدين من الأتراك وغيرهم!!، ولكن أهلها كثيراً ما يمتنعون بقوتهم عن دفع الخاوة.
قال سعد متسائلاً:
- منذ متى بدأ مرض الحمى في قفار؟
قال حميد:
- لا أحد يعرف منذ متى، ولكنهم يقولون إنه بعد أن بنوا الجدار على الجندي التركي، بدأت تنتشر الأساطير التي يحيكها الأتراك وغير الأتراك من منافسيهم عن بطر أهل قفار!!، وبدأت تظهر الإصابات بمرض الحمى عندما يشرب أحد من ذوي البشرة البيضاء من ماء آبار قفار يصاب بالصداع وارتفاع الحرارة، فينتفخ بطنه لعدة أيام ثم يموت !!.
فقال خلف وهو يحك أسفل ذقنه بأصابعه:
- هذا والله من البطر والكفر بالنعمة !!، أجل ينتفون ريش الدجاجة وهي حية ويحلقون شعر التيس وهو حي، ويتركونهما يركضان بينما هم يضحكون!، لذلك عاقبهم الله بأن سلط عليهم الحمى، فصار كل من شرب من ماء قفار ارتجف كما ترتجف الدجاجة بلا ريش، والتيس بلا شعر ثم ينتفخ بطنه ويموت، فاصبحوا كما قال الله عز وجل (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) بسبب بطرهم وعجرفتهم وكبرهم وكفرهم بأنعم الله.
فقال سعد:
- نعوذ بالله... نعوذ بالله !! ماشهدنا إلا بما علمنا !!.
وقال حميد:
- نعم.. لاشك أن البطر والغرور يتسبب بغضب الخالق، فيسلط الأوبئة، وجنود الشر على كل متكبر لا يقر بنعمة الله التي منحها له، ولكن بعض الذين يعرفون بواطن الأمور قالوا بأن القائد التركي، الذي دفن أهل قفار أحد جنوده في باطن السور، إلى على نفسه بأن ينتقم من أهل هذه القرية، فهيأ الأمر بنشر الأساطير الخرافية عن بطر أهل قفار، وبنى له صداقات سرية مع بعض ضعفاء النفوس من المستخدمين وأرسل جنوده تحت جنح الظلام في ليلة حالكة السواد يرتدون ملابس سوداء ويهبطون في الآبار وهم يحملون بين أيديهم (صرر) كثيرة من الجلد المثقب، وتحتوي بداخلها على السم القاتل الذي تركوه يذوب في مياه الآبار على مهل. كان عيّاد رجلاً من أهل قفار يتهجد في منتصف الليل قد سمع حركتهم في البئر التي بجواره فشاهدهم يهبطون ويخرجون كالخفافيش السوداء في تلك الليلة المظلمة، قرأ ورده وقفز ليمسك بواحد منهم وهو يصيح: (يا أهل قفار لقد عبث الجن بآباركم فانتبهوا ... أمسكوا الجن الخبثاء..أطردوهم عن آباركم لقد نجسوها!!). هربوا واندسوا في بطن الظلام الدامس، وعندما أصبح الصباح حكى للناس ماشاهده ليلة البارحة بأن أشباحاً تهبط وتخرج من الآبار كأنها الجان فقالوا له بأنك ياشيخنا قد كبرت واختلطت عليك الأمور من كثرة القراءة وأصبت بالوسواس من كثرة العلم فاستعذ بالله منه، فكثرة المعرفة تذهب العقل. حاول الشيخ عياد اقناعهم ولكنهم سخروا منه. واعتبروه مخرفاً. قالت بنت أخت عياد بأنها شاهدت ما ذكره خالها لهم وهي تجلب ماء الوضوء لوالدها الأعمى في غسق الفجر، ولكنهم لم يصدقوها وطلبوا منها أن تصمت لكي لا تكون مثل خالها موسوسة هي الأخرى بدون علم.
وعندما علم القائد التركي بذلك الرجل المخرف أمر بحبسه وتقييده بالحديد لأنه تخيل أشياء لا يصدقها إلا المجانين، وخوفاً على أهل قفار من جنونه أودعه السجن ولم يعد يشاهده أحد بعد ذلك.. قالوا بأنه قال للقائد التركي (بأنني موسوس وأنني لم أشاهد أي شيء يشبه الخفافيش تهبط وتصعد في الآبار !!) ولكن القائد التركي لم يصدقه !!، فأبقاه في السجن إلى أن مات، فحمله الجنود ورموه بجوار السور الذي بني على الجندي التركي، ولما علم أهل عياد قاموا بحفر قبر له في نفس المكان ودفنوه هناك.
لقد عم الوباء القرية وهرب منها من استطاع الهرب، أما من لم يستطيعوا فإنهم صاروا يحفرون قبورهم بأنفسهم، ويستلقون بجوارها ليسهل دفنهم بها، اذهب إلى هناك فستجد بعض القبور في داخل البيوت، وبعضها بجوار الآبار وبعضها في وسط البساتين الخاوية، مقابر لأسر بكاملها في وسط أملاكها ترتكز عليها النصائب الحزينة لتروي مأساة حصدت مدينة بكاملها، وتروى للناس ظلمهم لبعضهم وظلمهم لأنفسهم. تصوروا كم من مناحة قامت في تلك البيوت، في كل يوم ياله من خطب يبعث على الحزن والألم، (قالها حميد وعيناه مغرورقتان بالدموع) ثم واصل حديثه قائلا: والشيء الذي يحيرني هو لماذا لا تصيب هذه الحمى العبيد ولا تصيب سوى أسيادهم؟ !!. هل كانوا على علم بالآبار المسمومة؟!!، هل وصل بهم القهر للتعاون مع العدو لتسميم الآبار؟!!. قال حميد ذلك والعبرة تكاد تخنقه. فسرت عدوى الحزن إلى (سعد، وخلف) فقال خلف وهو يضع كفه على فم حميد:
- دعنا من خرافاتك عن قفار وأهلها، أنظر إلى الصيد (شف) جمايل الصيد عن يمينك،.. خفف ياسعد خلهم يرمون، ارم ياعويد... ارم ياعويد!!، ارم يا مطلق أسرع ياسعد، هجت الجميلة ارم ياولد هات البندق أويلاه ياسعد أسرع راح الصيد!!.
يبدو أن عويد في غفلة عن الصيد إما بالنوم أو بالكلام، كانت "جميلة"* من الغزلان تجري عن يمينهم في الأفق البعيد متقاطرة قرب الكثبان الرملية كخيط من القطن المندوف الذي تدفعه الريح إلى الأفق، أسرعت السيارة بصورة جنونية عندما وضع (خلف) قدمه اليسرى على قدم سعد اليمنى ليزيد من سرعة السيارة حين أعياه الطلب منه أكثر من مرة أن يسرع ، فقفزت السيارة من فوق عدوة عدامة كبيرة كما يقفز الغزال وسقطت على الأرض بعنف، ثم انطلقت في أثر الغزلان الهاربة والتي تلمع كالبرق فوق الأرض المنبسطة باتجاه الكثبان الرملية التي تصعب مطاردتها فيها السيارة منطلقة والعج ساكب خلفها كغيمة طويلة، والغزلان وصل أولها النفود، بينما اقتربت السيارة من آخرها، فانطلقت أول رصاصة باتجاه القطيع الهارب، فسقطت واحدة على رأسها ثم انقلبت على ظهرها ولوت عنقها في محاولة للنهوض، ولكنها لم تستطع، ثم انطلقت الرصاصة الثانية فسقطت الأخرى على ظهرها وقفزت تجري ثم ربضت على الأرض، تتلفت ناحية السيارة وتحاول النهوض بمقدم جسمها، فلم تستطع وبقي عنقها مرفوعا تنظر ناحية السيارة القادمة باتجاهها، فاستبشروا فرحين بصيدهم وهم يقولون بصوت واحد:
- أبشروا بالشبب،.عشت والله.. عاشت يمينك يا أخو (كنة)، عشت والله يا عويد!!
قال حميد:
- ونعم.. عويد ظفر ماشاء الله عليه أشهد أنه قرم.. وملحوم.
قال خلف:
- أنا أشهد انه ظفر.. يوم أنه شببنا اليوم، أنا أشهد أنه ظفر !!. ازداد شغفهم بالصيد وانطلقوا وهم يطلقون الرصاص من بنادقهم في أثر"الجميلة" الهاربة التي اختفت خلف (الطعوس) وعادت بهم السيارة ثم توقفت بجوار الصيدة التي لازالت رافعة عنقها، فقفز عويد ناحيتها وبيده مديته وأمسك برأس الغزال الذي يحاول الإفلات من قبضته وهو يضع سكينه على عنقه و يقول: باسم الله، والله أكبر.
حمل عويد وخلف، الصيدة إلى حوض السيارة وركبا ليلتقطا الصيدة الأخرى التي جر على عنقها عويد السكين الحاده فقطرت منها عدة نقط من الدم الذي لم يبق منه الكثير إثر انتثاره من موضع الرصاصة في العنق وقرب الرأس، بعد ذلك انطلقت بهم السيارة، للبحث عن مكان يبيتون فيه ليلتهم بجوار جبل عرنان. على أمل الانطلاق منه في نهار اليوم التالي إلى ناحية الشمال، إلى جبل المسمى ومن هناك يتجهون إلى وهاد المحفر، شمال جبل حبران، وربما مروا على غرمول العويد.
<< اما سالفة ظلما فهذي لحاله !!
تابعونا .. وسامحونا على الإطالة .. ولكنها ممتعة !!
المفضلات