السلام عليكم والرحمة
نستكمل ما بدأناهـ حول احداث رواية " حمى قفار "
الجزء الثانــــــي :
ذهبت السيارة بمن فيها، وابتعدت عن القرية الصغيرة ذات البيوت الطينية وتبلد في عيون الأطفال كل شيء، وبدت الشقوق في أسوار بيوت القرية الشاحبة أكثر مما كانت عليه في السابق، كأن السيارة أخذت معها بهجتهم وذهبت بها إلى المدينة، وتركت القرية تعود إلى السكون من جديد، بينما عجلاتها تنهب الأرض نهبا، وتثير الغبار عن يمين ويسار الطريق ثم يجتمع خلفها مكوناً غيمةً غباريةً كثيفة.
اقتربت السيارة من مدينة حائل الحالمة في السفح الشرقي لجبل أجا الضخم المختفية وراء الجبال السمر من ناحيتها الشمالية، ولم تلبث أن أطلت شرفات منازلها المطلية بالجص من وراء تلك التلال السمر كأنها طيور الحمام البيضاء، ومن ورائها تتمايل فروع النخيل الطويلة كرؤوس العذارى الراقصات بالبهجة في يوم عيد سعيد.
توقفت السيارة في سوق المدينة- الذي يضج بالحركة والأصوات العالية لشراء بعض لوازم السفر، والزهبة لبنادقهم، وأرسلوا سعداً إلى صديقهم أبو (حمد) ليبلغه بقدومهم، ومن ثم يعود إليهم في السوق ليحملهم ومشترياتهم إلى منزل صديقهم، كانت دكاكين المدينة متلاصقة وضيقة، ولكنها عامرة بالبضائع المختلفة، والأصوات المختلفة، والروائح المتباينة، أصوات الرجال، ورغاء الإبل وثغاء الأغنام، ونداء الباعة بأصوات عالية على ما يعرضون من بضائع.
من دكان واحد في السوق يمكنك أخذ لوازمك كلها، ووضعها أمام المحل أو حملها بيدك إذا لم تجد من يحملها عنك، وكذلك فعل حميد وأصحابه بمشترياتهم، وبعد فترة وجيزة جاء سعد لينقلهم من خلال طرق المدينة الترابية الضيقة إلى أن توقفت السيارة في الساحة الترابية الواسعة أمام منزل قديم في جنوبي مدينة حائل القديمة.
وأطل من الباب رجل أشيب الشعر، قوي البنية، تعلو وجهه ابتسامة تنبئ عن سعادته بالقادمين، وصار يلوح بيده، راسماً علامة استفسار ومحبة وهو يهلي ويرحب:
ياالله حيهم.... هلا والله... ياهلا..
تركوا السيارة، متجهين إلى الرجل، وسلموا عليه، واحداً تلو الآخر، وهم يدلفون إلى داخل المنزل، حيث قابلتهم رائحة القهوة، ورائحة طعام الغداء الشهي ممزوجة برائحة العود (الأزرق)، وفي الممر شاهدوا أمتعته وبندقيته المعدة للقنص، وتبادلوا نظرة الإعجاب بهذا الاستعداد السريع لأبي (حمد)0 قال أحدهم مازحاً:
- أبو حمد نشمي000 طير شلوى000 ما هو مثل بعض العلل.. !!.
لم يلبثوا إلا قليلاً ثم ناداهم (أبو حمد) لتناول طعام الغداء، ليتمكنوا بعد ذلك من أداء صلاة العصر، ثم المغادرة مباشرة إلى مبتغاهم.
بعد صلاة العصر اكتمل ركوبهم سيارة سعد واتجهوا ناحية الجنوب، تركوا مدينة حائل وراء ظهورهم، و استقبلوا الجنوب يجتازون أشجار الطلح عن يمين ويسار الطريق باتجاه خرائب مدينة قفار، ذات القصور والقبور، والنخيل الخاوية وأشجار الأثل الضخمة التي تطل على أفواه آبار معطلة، وقصور كانت مشيدة ثم هوت، ومنائر واقفة بلا مساجد، مدينة مفزعة في وسط النهار!!، ومرعبة في منتصف الليالي المظلمة!!. آبار تحولت إلى حفر ضخمة مظلمة فاغرة أفواهها لابتلاع
كل شيء. يحوم حولها الموت والخراب، تصيح وتنعق البوم فوقها بحزن في منتصف الليل، وينعق عليها الغراب في وضح النهار. النخيل ميتة واقفة بدت من بعيد كأعواد الكبريت المحترقة، وبقايا البيوت العالية كأسنان عبث بها السوس فاهترأت أجزاء منها، وتذربت أطرافها الأخرى بفعل الأمطار والرياح ومرور السنين، وعلى مقابرها الصامتة تقف شواهد من الصخور، تذكر بأنه كان هنا مدينة تعج بالبشر والبساتين المليئة بالفواكه والثمار الطيبة.
أوقف سعد سيارته مندهشاً لهذا المنظر المرعب، مدينة بكاملها لا يسكنها اليوم سوى الأموات وأعجاز النخيل الخاوية وأشجار الأثل الضخمة، والغربان التي تنعق في كل مكان !!، اقتربت الشمس من المغيب، فاكتست أطراف الأشياء والأظلة باللون الأصفر، وتمدد الظلام فوق المدينة الميتة، فقال سعد مندهشاً:
- يا الله 000 ما هذه المدينة الميتة؟ ومنذ متى ماتت هذه المدينة التي يظهر لي بأنها كانت مدينة عامرة بالنشاط في زمن مضى؟!!.
رد عليه عمه قائلاً:
- نعم كانت عامرة، انظر إلى ذلك القصر الضخم شرقي المدينة، ذلك هو القصر المعروف بقصر (غياض).
قال سعد:
- ومن يكون (غياض)، هذا الذي بنى هذا القصر الهائل؟
قال له عمه:
- اخرج بنا عن وسط هذه الخرائب، لنؤدي صلاة المغرب، وبعد ذلك سوف أحكي لك عن هذه المدينة وعن قصر (غياض).
قال وهو يدير مقود السيارة :
- انظر إلى ذلك النخيل الواقف، لماذا حفر في منتصفه؟
- كانوا يحفرون جذوع النخل ليستخرجوا النبق من بطن النخلة ثم يجففونه ويسحقونه ثم يأكلونه في وقت الجوع؟!!.
- يأكلون لب النخلة، يأكلون الخشب؟!!.
- نعم.. يابني في زمن الجوع يأكلون كل شيء
أنهى الجميع صلاة المغرب، وركبوا سيارتهم (الونيت) التي تحركت بهم مواصلة طريقها بالاتجاه نفسه (الجنوب الغربي)، بمحاذاة جبل أجا الوردي الهائل عن اليمين، والسهل الممتد من ناحية اليسار إلى جبل سلمى تتخلله بعض (الحزوم) المكسوة بالصخور السوداء المتناثرة، وأشجار الطلح، وأحراش الرمث ذات الرائحة النفاذة الطيبة، وحين أدمس الكون، أشعل سعد الأنوار العالية لسيارته كي تتضح له معالم الطريق الترابي، متجهة جنوبا، ثم اجتازت حافة (جبال السلف) عن يمين الطريق ومنطقة بزاخة من اليسار، ثم انحرف الطريق إلى جهة الغرب المؤدي إلى قرية (موقق)، ومن ثم إلى جبال المسمى، وبدت أضواء خافتة من بعيد، تبين أنها (ضيان) لنار بيوت من الشعر، يسكن أهلها ذلك (الشعيب) المنحدر من جبل أجا. وعند الاقتراب من بيوت الشعر هجمت الكلاب على السيارة ونبحتها، ركضت خلفها مسافة بعيدة.. ثم توقفت وهي تهر تارة وتنبح أخرى، ولكن السيارة لم تأبه بالنباح ولا بالهرير، واصلت مسيرها واجتازت المنطقة، مسرعة وبقي كلب أطوق يواصل الركض واللهاث إلى جوار السيارة مسافة بعيدة عن بيوت الشعر، ثم تملكه اليأس فتوقف مكتفيا بالنباح وسط الغبار الذي خلفته السيارة، وهي تنطلق في طريقها إلى موقق، ومن ثم إلى جبال المسمى ومنطقة حبران، المعروفة بكثرة الصيد خاصة غزلان الريم.
لم يكن يشغل سعداً شيء كما كانت تشغله قصه قفار وأهلها، لقد هالته تلك الخرائب وبقايا القصور وسور قصر (غياض) الضخم المتهدم، تصورها مدينة تعج بساكنيها، يحرثون ويزرعون ويحصدون ويبيعون ويشترون، يغرسون النخيل والأشجار، ويبنون بيوتهم من الطين والصخور وخشب الأثل وجذوع النخل، فقال فجأة لعمه:
- من يكون (غياض) هذا يا عم هل هو شيخ لبلدة (قفار) أم ماذا؟.
التفت عمه نحوه وقال له بدهشة:
- لازلت تفكر بقفار وخرائب قصورها!! إن قفار وأهلها لهم قصص كثيرة غامضة ومحيرة، خذ مثلا قصر (غياض)، بعضهم يقول بأن غياضاً هذا هو صاحب القصر، وبعضهم يقول بأن غياض هو القصر نفسه، أي أن القصر هو غياظ* الذي أثار غيظ الأتراك الذين حاولوا إيقاف بنائه، وعارضوا بناء السور من حوله. فوقعت الواقعة التي كانت شرارة الدمار والمأساة القفارية!!.
- وكيف حدث ذلك؟!!.
وللحديث بقية .. تابعونا
المعانــــــي ..
غياظ : قصد هنا معنى الغيظ
غياض: حارة من حارات قفار، واطلق على القصر هناك،
ويطلق على فئة من بني تميم، يقال لهم آل غياض
المفضلات