السلام عليكم ورحمة الله
المنظمة العربية للتربية
والثقافة والعلوم
المشــــكاة
رؤية مستقبلية للتعليم فى الوطن العربى
الوثيقة الرئيسية
د. نادر فرجانى
مدير مركز "المشكاة" للبحث، مصر (الموقع على الإنترنت: www.almishkat.org)
يونيو/حزيران 1998
"هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون"
سورة الزمر- آية 9
"ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم"
حديث شريف
"العلم إنما هو صورة المعلوم فى نفس العالم، وضده الجهل فهو عدم تلك الصورة من النفس. واعلم بأن أنفس العلماء علامة بالفعل، وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، وأن التعلم والتعليم ليسا شيئاً سوى إخراج ما فى القوة، يعنى الإمكان إلى الفعل، يعنى الوجود، فإذا نسب ذلك إلى العالم سمى تعليماً، وإن نسب إلى المتعلم سمى تعلماً"
اخوان الصفا
"التربية ليست "حمل المتعلمين على حفظ فروع العلم"، بل هى "إثبات ملكة العلم فى نفوس المتعلمين""
ابن خلدون
تصدير
تضم هذه الوثيقة "رؤية مستقبلية" للتعليم فى الوطن العربى تبلورت عبر مراحل عدة، وأنضجت من خلال نقاش مستفيض وعميق.
فى البداية، كلفت المنظمة د. نادر فرجانى بإعداد ورقة "نحو رؤية مستقبلية للتعليم قبـل الجامعى فى الوطن العربى". ونوقشت هذه الورقة فى اجتماع خبراء عقد فى تونس (يوليو/تموز 1997) ثم نقحت بناء على مناقشات الاجتماع.
وفى اجتماع الخبراء نفسه، رؤى أن يرتكز إعداد رؤية مستقبلية للتعليم فى الوطن العربى، معرفياً، بالإضافة إلى الورقة الأساسية، على محورين:
استطلاع آراء وزارات التعـليم والتربية والمعارف العربية فى واقع التعليم وبدائل مستقبله، بالتركيز على المشكلات التى تعترض نشر التعليم راقى النوعية، وسبل مواجهتها.
مجموعة من أوراق العمل الخلفية فى مجالات مختلفة من منظومة التعليم وعلاقاتها بالسياق الاجتماعى والاقتصادى، من قبل خبراء بارزين من بلدان عربية مختلفة، ومن مناظير معرفية متنوعة، على أن تتضمن الأوراق رؤى ثاقبة تركّز على واقع الأقطار العربية، وتقدم دليلاً للعمل المستقبلى.
وسمحت الإمكانات المتاحة بتكليف خبراء لإنجاز غالبية أوراق العمل التى كانت مقترحة. وقد أتيحت ورقة "نحو رؤية مستقبلية للتعليم قبل الجامعى فى الوطن العربى" لمعدى أوراق العمل الخلفية، حتى يمكن توافر إطار مرجعى عام لأوراق العمل المعدة، وضمان حد أدنى من الاتساق بين محتواها. كما طلب من واضعى الأوراق الاستفادة من جهود المنظمة، وغيرها، فى الموضوعات المطلوبة.
وقد أنجزت، نهاية، أوراق العمل الخلفية التالية:
"المحتوى الإنسانى والحضارى والاجتماعى للتعليم"، د. محمد جواد رضا، العراق؛
"رؤية للعالم فى القرن الحادى والعشرين ودور العرب فيه"، د. محمد محمود الإمام، مصر؛
"السياسات المستقبلية للتعليم فى ضوء الخبرات العربية والدولية"، د. عبد الله عبد الدايم، سوريا؛
"تربية المعلمين: مدخل للإصلاح"، د. محيى الدين توق، الأردن؛
"الاستخدام الناجع لتقانات التعليم الحديثة"، د. معين جملان، البحرين؛
"التعليم قبل المدرسى"، د. عائشة بلعربى، المغرب؛
"خصوصية ذوى الاحتياجات الخاصة"، د. بدر عمر العمر، الكويت؛
"تحسين التعليم المهنى والفنى"، د. محمد بن شحات الخطيب، السعودية؛
"نمط المدرسة العربية المتوافق مع ترقية رأس المال البشرى"، د. وهيبة غالب فارع، اليمن؛
"التغييرات المطلوبة فى النسق الاقتصادى والاجتماعى-السياسى"، د. الواثق كمير، السودان.
كذلك أعد مركز "المشكاة" للبحث، القاهرة، ثلاثة تقارير إحصائية تحليلية مقارنة. ينصب الأول على مؤشرات الالتحاق بالتعليم والإنفاق عليه فى البلدان العربية مجتمعة بالمقارنة بتجمعات دول أخرى فى العالم، ويتناول الآخران التفاوت بين البلدان العربية فى الالتحاق بالتعليم، وفى الإنفاق على التعليم.
ووصلت للمنظمة تقارير قطرية من سوريا وتونس وقطر وعمان وفلسطين (ومن الكويت نسخة من وثيقة "مدخل إلى استراتيجية مستقبلية أولية لتطوير التربية فى دولة الكويت حتى عام 2025م").
وبالإضافة إلى تعميق البعد المعرفى للرؤية المستقبلية، فإن الورقة الأساسية، ومجموعة أوراق العمل الخلفية، والتقارير الإحصائية، والتقارير القطرية، تشكل منتجاً مهماً فى حد ذاتها باعتبارها مراجعة واسعة لأوضاع التعليم فى البلدان العربية لم تتوافر منذ قامت المنظمة بجهد مماثل، فى التسعينيات الأولى.
وقام على تركيب حصيلة الأوراق والتقارير فى صياغة أولى فريق عمل يضم: د. حامد عمار، د. نبيل نوفل، ود. نادر فرجانى (منسق الفريق).
ثم طرحت صياغة أولى للمناقشة فى اجتماع شارك فيه ممثلون للدول العربية وخبراء فى مسقط (مايو/أيار 1998).
وتضم الوثيقة الحالية تنقيح الصياغة الأولى بناء على حصيلة مناقشات اجتماع الخبراء.
المحتويات
تمهيد
أولاً: المحتوى الإنسانى للتربية
ثانياً: السياق العالمى والإقليمى للتربية
ثالثاً: أهم دروس التجربة العالمية فى تطوير التعليم
رابعاً: التوجهات الاستراتيجية
خامساً: سياسات نشر التعليم وتجويده
سادساً: مجالات نشر التعليم وتجويده
تقانات التعليم الحديثة
تعليم الكبار
التعليم قبل المدرسي
ذوو الاحتياجات الخاصة (بالتركيز على المتفوقين)
التعليم الفنى والمهنى
تكوين المعلمين
المدرسة والمجتمع
التعليم العالى
سابعاً: فى الحاجة وإمكان الإنفاذ
تمهيد
لقد حققت البلدان العربية إنجازات كبيرة فى ميدان التعليم، خاصة منذ أواسط هذا القرن، إلا أن الإنجاز التعليمى فى عموم الوطن العربى، حتى بالمعايير التقليدية، مازال متخلفاً بالمقارنة بباقى العالم، وفى بعض الأحوال حتى بالنسبة للبلدان النامية.
بداية، انتشر التعليم بين النشء، على حين صمدت الأمية أمام محاولات القضاء عليها، فظل مستوى التحصيل التعليمى الإجمالى منخفضاً بوجه عام بين السكان البالغين فى البلدان العربية. ولا ريب فى أن البلدان العربية قد حققت تقدماً واضحاً فى مكافحة الأمية، إذ يقدر أن انخفضت نسبة الأميين بين البالغين من قرابة 60% فى عام 1980 إلى حوالى 43% فى منتصف التسعينيات . لكن يرد على هذا الإنجاز تحفظان مهمان: الأول، أن معدلات الأمية فى الوطن العربى مازالت أعلى من متوسط العالم، وحتى من متوسط البلدان النامية. والثانى، أن عدد الأميين ما فتئ يتزايد، حتى أن البلدان العربية تدخل القرن الواحد والعشرين مثقلة بحوالى سبعين مليون أمياً، غالبيتهم من النساء.
وحيث يطرد تأكيد البحوث العلمية حديثاً على الأهمية القصوى لسنوات الطفولة المبكرة فى تشكيل العقل البشرى وتحديد مدى إمكاناته المستقبلية، استقرت ضرورة التركيز على التعليم قبل المستوى الأول. ولكن هذا ميدان آخر تتخلف فيه البلدان العربية عن متوسط البلدان النامية.
فبينما تضاعف عدد الأطفال الملتحقين بالتعليم قبل المستوى الأول فى البلدان العربية بين عامى 1980 و1995، لم يتعدَّ العدد مليونين ونصف المليون فى السنة الأخيرة، بما يوازى نسبة استيعاب أقل من متوسط البلدان النامية. غير أن الأسوأ من هذا القصور هو انخفاض نصيب البلدان العربية من جملة أطفال البلدان النامية الملتحقين بالتعليم قبل المستوى الأول عبر الفترة المعتبرة ( من 4.8% فى عام 1980 إلى 4.0% فى عام 1995). كذلك ما برحت نسبة البنات فى هذه المرحلة التعليمية، رغم تزايدها باطراد، تقل عن نظيرتها فى البلدان النامية (42% مقابل 47% فى عام 1995).
وتحكى بيانات الالتحاق بمستويات التعليم الثلاثة فى البلدان العربية قصة تطور كمى مطرد. فقد زاد عدد الملتحقين بمراحل التعليم الثلاث من 31 مليوناً فى عام 1980 إلى ما يقارب 56 مليوناً فى عام 1995. إلا أن المشاهدة الأهم هى تباطؤ التحسن فى نسب الاستيعاب فى التسعينيات، فى مستويات التعليم الثلاثة، عن معدل إنجاز الثمانينيات، خاصة فيما يتصل بالمستويين الثانى والثالث. كذلك يعيب التطور الكمى الكبير فى الالتحاق بالتعليم عامة فى البلدان العربية نقص نصيب البنات من الملتحقين، خاصة فى المستوى الثالث (العالى)، على الرغم من تزايده.
وهكذا تدل البيانات المتاحة، حكماً بنسب الالتحاق، على أن المستوى الأول من التعليم النظامى فى البلدان العربية قد قصر حتى الآن عن استيعاب الأفواج الجديدة من المواطنين العرب، مع تحيز واضح ضد الإناث، سواء قارنا بالبلدان النامية أو العالم ككل.
ورغم تفوق نسب الاستيعاب الإجمالية فى المستويين الثانى والثالث فى البلدان العربية (54%، 13%) عن البلدان النامية (49%، 9%) فى منتصف التسعينيات، إلا أنها تقصر بشدة عن المستوى السائد فى البلدان المصنعة (106%، 60%)، ويزداد القصور، مقارنة بالبلدان المصنعة، فى حالة البنات. ويتأكد هذا الاستخلاص من انخفاض نصيب المستويين الثانى والثالث من الملتحقين بالتعليم فى البلدان العربية بالمقارنة بالبلدان المصنعة، وبشكل واضح فى المرحلة الثالثة (6% فى البلدان العربية مقارنة بحوالى 20% فى البلدان المصنعة).
ويتعين أن تكون المقارنة بالبلدان المصنعة أساس المعيار الواجب تبنيه للأهداف المستقبلية للتعليم فى البلدان العربية. ويعنى ذلك أن يستمر سعى البلدان العربية لتوسيع نطاق الالتحاق بمراحل التعليم كافة، مع التركيز على التعليم قبل المستوى الأول والمستويات الأعلى- عماد المهارات المتقدمة. ولهذا التصور تبعات مهمة بالنسبة لتمويل التعليم لا يجب التنصل منها، كما تدعو بعض المنظمات الدولية، بتعلة الحاجة لإعادة توزيع الموارد المخصصة للتعليم لمصلحة التعليم الأساسى، على حساب المستويات الأعلى، تحقيقاً للعدالة الاجتماعية. فالمطلوب توفير موارد أكبر للتوسع فى جميع مستويات التعليم فى البلدان العربية، خاصة الأعلى منها.
والواقع أن هناك مؤشرات مزعجة على تدنى القيمة الحقيقية لمخصصات الإنفاق على التعليم فى البلدان العربية. لقد ارتفع الإنفاق على التعليم فى البلدان العربية، بالأسعار الجارية، من 18 بليون دولار فى 1980 إلى 28 بليوناً فى 1995. ولكن معدل الزيادة منذ عام 1985 كان أقل بكثير من الفترة (1980-1985). أما إذا أخذنا فى الاعتبار معدلات التضخم، وقد كانت شديدة الارتفاع فى كثير من البلدان العربية، لتبيَّن أن القيمة الحقيقية للإنفاق على التعليم فى البلدان العربية كان فى انخفاض منذ بداية الفترة المدروسة.
صحيح أنه حسب المؤشر، المنقوص، الذى يستخدم عادة فى المقارنات الدولية، أى نسبة الإنفاق على التعليم إلى الناتج الإجمالى، يظهر أن البلدان العربية تتفوق على مجموعتى البلدان النامية والمصنعة على حد سواء. ولكن حتى على هذا المؤشر يتبين أن نصيب الإنفاق على التعليم من الناتج فى البلدان العربية ارتفع بدرجة ملحوظة بين عامى 1980 و 1985، على حين كان أدنى فى عام 1995 منه فى عام 1985، على عكس الحال فى كلا البلدان النامية والبلدان المصنعة.
والأفضل من هذا المؤشر المعيب هو تتبع التغير فى نصيب الفرد من الإنفاق على التعليم. بالأسعار الجارية، نجد تحسناً بين عامى 1980 و 1985، ثم تدهور. فقد انخفض نصيب الفرد فى البلدان العربية، بالأسعار الجارية، فى النصف الثانى من الثمانينيات، مقابل تحسن واضح فى المجموعتين الأخرتين، خاصة البلدان المصنعة، وهى لم تكن مقلة فى الإنفاق على التعليم أصلاً. ورغم تفوق البلدان العربية على البلدان النامية على هذا المعيار، فإن هذه الميزة النسبية تدهورت منذ منتصف الثمانينيات. أما بالمقارنة بالبلدان المصنعة، فقد تردى نصيب الفرد من الإنفاق على التعليم فى البلدان العربية من حوالى الخُمس فى عام 1980 إلى العُشر فى منتصف التسعينيات.
أما إذا أدخلنا فى الاعتبار معدلات التضخم، لتبين لنا التدهور البالغ فى نصيب الفرد من الإنفاق على التعليم فى البلدان العربية عبر الفترة المدروسة كلها، خاصة فى النصف الثانى من الثمانينيات (إذا كان معدل التضخم يساوى 10% سنوياً، وهذا تقدير مقلل فى حالة البلدان العربية، لاقتضت المحافظة على نصيب الفرد، باستبعاد تأثير التضخم، أن يزداد بحوالى 60% كل خمس سنوات).
والأهم من ذلك أن الفئات الاجتماعية الأضعف، مثل النساء والفقراء، تعانى معدلات أمية أعلى نسبياً، خاصة فى المناطق الريفية. وتعانى البنات والمناطق الفقيرة، خاصة فى الريف، حرماناً أشد من التعليم، يتصاعد فى المراحل التعليمية الأعلى. وبعبارة أخرى، تتبع التفاوتات فى الالتحاق بالتعليم الأساسى، حسب النوع والمستوى الاجتماعى ومناطق البلاد، نمط التفاوتات فى الأمية نفسه. وهكذا تؤدى التفاوتات فى الالتحاق بالتعليم الأساسى إلى تفاقم التفاوت فى رصيد التحصيل التعليمى حسب النوع والمستوى الاجتماعى.
ويتعين الانتباه إلى أن التغيرات فى البيئة الاقتصادية الكلية فى سياق إعادة الهيكلة الرأسمالية التى بدأت فى البلدان العربية، بدرجات وأشكال متباينة، منذ منتصف السبعينيات (ضغط الإنفاق الحكومى، والتضخم، وانتشار الفقر، والعودة إلى فرض الرسوم فى التعليم تحت عباءة "استعادة التكلفة"، ...) قد اقترنت بآثار سالبة على تراكم رأس المال البشرى من خلال الالتحاق بالتعليم. وقد دفع الفقراء، والنساء والبنات، ثمناً أبهظ من المتوسط لهذه التغيرات.
وتتكاثر الشواهد على تدهور الكفاءة الداخلية للتعليم فى البلدان العربية، كما تتبدى فى ارتفاع نسب الرسوب والإعادة، الأمر الذى يؤدى إلى طول بقاء الطلبة فى المراحل الدراسية.
إلا أن نوعية التعليم هى المشكلة الأخطر. ورغم قلة الدراسات المضبوطة، تعم الشكوى من تردى نوعية التعليم فى البلدان العربية، وتؤكد الدراسات القليلة المتاحة غلبة سمات ثلاث أساسية على ناتج التعليم فى البلدان العربية: تدنى التحصيل المعرفى وضعف القدرات التحليلية والابتكارية، واطراد التدهور فيها.
ويقوم كذلك خلل جوهرى بين سوق العمل ومستوى التنمية، من ناحية، وبين ناتج التعليم من ناحية أخرى، ينعكس على ضعف إنتاجية العمالة، ووهن العائد الاقتصادى والاجتماعى على التعليم فى البلدان العربية. وليس أدل على ذلك من تفشى البطالة بين المتعلمين، وتدهور الأجور الحقيقية للغالبية العظمى منهم.
ويترتب على هذه السمات قيام مشكل مزدوج على المستويين الفردى والجماعى: فالتعليم، بشكله الحالى فى البلدان العربية، لم يعد مدخل الفقراء للصعود الاجتماعى، أو حتى للوفاء بالحاجات الأساسية، على حين يبقى تعليماً أرقى هو السبيل الوحيد لنهضة البلاد.
ويؤدى النظر فيما ينطوى عليه استمرار الاتجاهات الحالية فى المعالم الرئيسية للتعليم التى تطرقنا لها أعلاه، على صورة امتداد خطى، إلى نتائج-كوارث يجب أن تحمل العرب على التحرك الجاد دون إبطاء أطول.
فلا يُتوقع أن يمكن القضاء على الأمية، الهجائية فحسب، بين الرجال فى البلدان العربية قبل انقضاء ربع القرن القادم. وبالنسبة للنساء فسيكون علينا الانتظار حتى ما بعد عام 2040.
ويُتوقع أن تتمكن البلدان العربية من نوال مستوى الالتحاق بالمستويات الثلاثة للتعليم الذى ساد فى البلدان المتقدمة فى منتصف التسعينيات، ولكن ليس قبل حلول عام 2030.
وإذا اقتصرنا على المستوى الثالث من التعليم، فعلى البلدان العربية أن تنتظر حتى مرور مائة وخمسين عاماً من القرن الثانى (نعم، الثانى!) والعشرين لتنال مستوى الالتحاق الذى ساد فى البلدان المتقدمة فى منتصف التسعينيات).
أما إذا ابتغينا النظر فى مغزى اطراد تردى نوعية التعليم فى البلدان العربية، أو سوء خدمة التعليم لأغراض التنمية بوجه عام، لتعدى الأمر منظور التعليم، والتنمية، إلى صعيد البقاء، الكريم، فى هذا العالم.
وهكذا يظهر أن بلدان الوطن العربى، رغم إنجازاتها الواضحة، مازالت عاجزة عن تقديم الحد الكافى من التعليم لأجيالها القادمة. ويتردى الإنفاق على التعليم فيها لدرجة تنذر بالخطر. وليس من قبيل المبالغة القول بأن النوعية المتدنية قد أمست أخطر مساوئ التعليم فى الوطن العربى، الأمر الذى يلقى ظلالاً قاتمة على الإنجاز الكمى للتعليم. إن كل ذلك يكاد ينبئ بكارثة مستقبلية فى القرن الواحد والعشرين، قرن تسارع المعارف والقدرات البشرية المتطورة، إن استمرت الأوضاع الراهنة فى مضمار التعليم فى البلدان العربية.
وعليه يمكن القول بأن أبرز سمات أزمة التعليم فى البلدان العربية عجزه عن الوفاء بمقتضيات تطوير المجتمعات العربية، خاصة فى العصر الذى نعيش قرب مطلع القرن الواحد والعشرين. الأمر الذى يكاد يكرس قطيعة عن مجرى التحول الهائل الذى يمر به العالم، وصولاً لعالم المعرفة والمعلومات والتقانة الواحد، الذى هو فى الوقت نفسه عاصف بمقدرات البلدان العربية.
لقد استقر أن صلب هذا العالم الآتى هو محور التعليم-التعلم المستمر، ودائب الترقى، على مستوى الأفراد، وربما أهم، على صعيد المجتمعات التى سيمكن لها أن تشارك فى العالم الجديد من موقع الاقتدار، والتى أضحت توسم "مجتمعات التعلم". ومن هنا ينبع الاهتمام الفائق بالتربية عامة، وبالتعليم خاصة، من حيث هما عماد تمكين البشر من الإمساك بناصية التعلم مدى الحياة. فهل من سبيل لنقلة جسور فى التعليم فى البلدان العربية؟
تضم هذه الوثيقة "رؤية مستقبلية" للتعليم فى الوطن العربى تستهدف تمكين الوطن العربى من بناء "مجتمعات التعلم" فى أمصاره من خلال إعادة نظر جذرية فى نسق التعليم فى البلدان العربية.
والافتراض الجوهرى للرؤية المقدمة أن التربية يمكن أن تكون قاطرة للتقدم. هى كذلك بالفعل فى المجتمعات المتقدمة. وأضحت كـذلك فى جميع البلدان التى نهضت فى العالم المعاصر. وتزداد أهميتها فى العالم الجديد الذى يتشكل الآن. والسبب بسيط. فالفعل يبدأ فى العقل، والتربية المؤدية لنهضة حق ترسى دعائم النقد والإبداع، وهذان هما أساس التغيير والتطوير. ولهذا يقوم متصاعد خير بين التربية والتقدم: التربية الجيدة تؤسس اطراد التقدم عبر النقد المستمر للواقع وتغييره، والمجتمعات الناهضة لا تألوا جهداً فى دعم التربية وصولاً لمعارج أرقى من التعليم-التعلم.
وفى هذا المنظـور وجب على العرب دوماً، كشأن الأمم الحية جميعاً، تسليط النظر الفاحص على أوضاع التربية والتعليم ومساهمتهما فى تقدم المجتمعات العربية، وصوغ التصورات المستقبلية لتجويدها وتعظيم مساهمتها فى رقى الأمة.
وخليق برؤية مستقبلية تتوخى نهضة الأمة أن يكون تناول الموضوع فيها "معيارياً"، بمعنى تناول ما يجب أن يكون خدمة للغاية النهائية المرتجاة.
وتتوفر "الرؤية" على تحديد، الوجهة العامة المرغوبة للتعليم فى البلدان العربية، فتركز على الخطوط العريضة دون الدخول فى تفاصيل الأهداف، أو المسارات، أو الآليات، أو الآفاق الزمنية، أو الإمكانات اللازمة. هذه أمور يأتى دورها فى أعمال ذات طابع تخطيطى تلى، منطقياً، تبنى رؤية مستقبلية.
وحيث ينطوى تلمس رؤية مستقبلية، ضرورة، على انتقاء للعناصر التـى تعتبر جوهرية فى بنية الموضوع المثار، أو ينتظر أن تلعب دوراً حاسماً فى صوغ تطوراته المستقبلية، فإن التناول فى الوثيقة أيضاً انتقائى.
ولاشك فى أن البلدان العربية تتفاوت بيِّناً فى الحجم وفى البنية الاجتماعية والاقتصادية، بما ينعكس على أوضاع التعليم فيها. وتقوم كذلك تفاوتات مهمة داخل البلدان العربية. غير أن التركيز يقع هنا على القسمات العامة والغالبة فى البلدان العربية مع التحفظ، مسبقاً، بقيام التنوع. وعلى كل بلد عربى أن يجد موقعه الملائم فى "الرؤية" المقدمة بما يتناسب مع أوضاعه وإمكاناته.
غير أن الرؤية المقدمة تنطلق من منظور قومى حاكم، فى النظر فى الواقع الراهن، وبوجه خاص، فى اقتراح العمل المستقبلى. وتنطوى "الرؤية"، كما سيظهر، على عدم كفاية الحلول القطرية الخالصة للنهوض بالتعليم فى مجمل البلدان العربية.
إن أية "رؤية مستقبلية" تنطلق من سبر الواقع فى مقطع زمنى معين، ومن تصور للمستقبل فى هذا الزمن. ومن ثم فإن متابعة التبصر بالمستقبل، والتدبر له، يقتضيان أن تراجع الرؤية دورياً، وكلما استجد ما يدعو إلى ذلك من أحداث جسام.
ولعل نضج رؤية مستقبلية رصينة يشحذ العزم على صوغ "استراتيجية" تكفل تحقق هذه الرؤية.
وإذا عُقدت النوايا، وعُبئت الإمكانات اللازمة، يصير ممكناً وضع "خطة" عربية كفيلة بإنفاذ هذه الاستراتيجية.
إن تطوير "رؤية مستقبلية للتعليم فى الوطن العربى" يمثل استجابة واجبة لتطورات اقتصادية واجتماعية وثقافية هائلة، وبالغة التسارع، على صعيد العالم والمنطقة. وتستدعى مسايرة هذه التطورات نقلة جوهرية فى نسق التعليم تقوم على التوسع والتجديد والتجويد باستمرار، حتى أصبح تطوير التعليم مجالاً للتنافس الدولى الحاد، باعتباره أحد أهم مكونات القدرة التنافسية الكلية لأى مجتمع فى عصر المعرفة والعولمة.
وتفرض هذه التطورات على العرب تحدياً ضخماً وجب أن ينهضوا لمجابهته بما هم أهل له. وعلى قدر هذه المجابهة سيتعين حظ العرب فى العزة والمنعة فى الزمان الآتى.
ولابد من إشارة إلى أن هناك رؤية سائدة للتعليم فى البلدان العربية، فى سياق منظور للتطور الاجتماعى والاقتصادى يدور فى فلك النسق الرأسمالى الطليق الذى تتحول إليه البلدان العربية، فى خضم تحولات عالمية عاتية. والخشية أن هذه الرؤية السائدة تنطوى على مخاطر على التعليم، وعلى دوره الاجتماعى، وعلى وظيفته النهضوية، ومن ثم على مستقبل الأمة.
ولقد أزف الوقت لتخليق رؤية بديلة.
فالرسالة الأساسية التى تنجلى عنها نظرة مدققة لأوضاع رأس المال البشرى عامة، والتعليم خاصة، ومساهمتهما فى تطوير المجتمعات العربية قرب نهاية القرن العشرين، هى شعور بالخطر شديد يستوجب الانتباه اليقظ، والفعل المبادر والحاسم.
وقد يبدو هذا الاستخلاص مدعاة للدهشة حيث يسود انطباع بالرضى عن أحوال التعليم فى البلدان العربية. ويعود الرضى، الخادع، إلى التركيز على التعليم بين الصغار، حيث وقع تقدم كمى كبير فى العقود الثلاثة الأخيرة. غير أنه قد اتضح أعلاه استمرار عبء للأمية ثقيل من ناحية، وتدنى الالتحاق بمراحل التعليم الأعلى من ناحية ثانية، وإهمال مسألة النوعية، فى ناتج التعليم، التى تتعاظم الدلائل، غير المباشرة، على تدنيها، من ناحية ثالثة. وفى هذه النقائص الثلاث، خاصة الأخيرة، ما نعتبره مقتل التعليم، ودوره النهضوى، فى البلدان العربية فى المرحلة الراهنة من تطورها.
ومن ثم، يمثل نشر التعليم، خاصة فى مراحله الأعلى، ورفع نوعية التعليم فى الوطن العربى التحدى الأكبر لتكوين رأس المال البشرى الواسع وراقى النوعية، وهو بوابة العبور إلى التقدم فى القرن الواحد والعشرين.
وكى يقدّر لرؤية مستقبلية فرصة معقولة للتوصل إلى غاياتها، يجب أن تحقق توازناً دقيقاً بين واقعية المنطلق وتجاوز الراهن. إذ تتوقف فاعلية الإنجاز المحتمل، بين عوامل أخرى، على مدى التجاسر على تجاوز سمات الوضع الراهن التى أنتجت الواقع الذى تسعى الرؤية لتغييره. فالواقعية، وإن كانت أمراً محموداً فى تحديد نقطة الانطلاق، وشرطاً لازماً فى تصور الوسائل، قد تكون مجرد غطاء لتكريس الواقع القائم إن اقتصرت الوسائل على ممكنات الوضع الابتدائى.
إن الجسارة منطلق التجاوز، والتربية العربية أمست تشكو الحاجة لنقلة جسور.
أولاً: المحتوى الإنسانى للتربية
لقد ساهمت التربية العربية فى عزل الأمة عن روح حضارة العصر- وإن تمتع البعض بأحدث المنتجات المادية للحضارة الغربية، وفى تشويه نظم التفكير عند الأجيال التى تعاقبت منذ الحرب العالمية الأولى. ولم تخضع التربية لتقويم جذرى حتى غدت الممارسة التربوية نفسها نوعاً من السلفية الاجتماعية. وظلت هذه التربية غارقة فى تسييس ذى طبيعة قهرية وماضوية. وكان- بالتبعية- طبيعياً ألاّ يكون فى هذه التربية مكان ذو معنى للديمقراطية أو لفكرة التقدم، ولا لإنسانية المتعلم نفسه: قدراته وطاقاته وحريته وفرديته وحقوقه الإنسانية.
لقد كان القرن العشرون عصر العلم أو عصر التحليل، وسيكون القرن الحادى والعشرون عصر الإنسان، عصر ما بعد الثورة الصناعية.
ولن يمكن الإفلات من "ماضوية التربية" و "السلفية الاجتماعية" المتولدة منها إلا بالتحول إلى نمط ثقافى يكون "محوره" الإنسان، ومنه- كقيمة عليا- يشتق رؤاه وتطبيقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية.
منطلقات معيارية
تتلاحم ست مقولات معيارية تكوّن- مجتمعةً- أساساً لبنيوية تربوية جديدة فى الوطن العربى تلحق الأمة العربية بالقرن الحادى والعشرين.
مركزية الفرد فى العملية التربوية. غير أن هذا لا يعنى قلة الاهتمام بالجماعة أو غياب السلوك التعاونى. فالحرية هى الأساس فى السلوك التعاونى، وهذا هو جوهر الديمقراطية فى العصر الحديث. إن "الفردية" المقصودة ليست فردية الاستحواذ والتكاثر. إنها فلسفة أخلاقية يرتضى بموجبها الفرد التضحية من أجل الآخرين فى قضية أو موقف ذى مضمون أخلاقى. ولكى يكون الفرد قادراً على هذا، لابد من أن يُعَّد لذلك ويربى عليه.
ويتفرع عن ذلك اعتماد فلسفة تربوية تقوم أساساً على احترام الكرامة الإنسانية للفرد. على أن مفهوم الكرامة الإنسانية هو بالضرورة مفهوم دقيق جداً، ولابد من توافر جملة شروط أخلاقية واجتماعية لازمة لتحديد معناه تحديداً علمياً، تحديداً يجعل من الإنسان قيمة مركزية تُسخَّر المؤسسات الاجتماعية المختلفة فى كل ما يؤدى إلى ضمان حقوقه فى الأمن والحرية والحماية من الحاجة والاستمتاع بكل جميل فى الحياة. فاحترام الحقوق هو المقابل الموضوعى لاستدعاء الفرد للقيام بالواجبات، عن طيب خاطر، بما يحقق مصالح الجماعة.
دون المساس بالعقائد والقيم العليا، ليس هنالك ثوابت فى الواقع الاجتماعى للإنسان، كل شئ يتحرك، وهو يتحرك فى أنساق مركبة وتتوسع باطراد. الأمر الذى يوجب التقليل من الاعتقاد بعصمة المواريث الفكرية والاجتماعية من الخطأ أو القصور إذا ما أثبت التحليل العلمى ذلك. ويعنى ذلك نَظْم طرق التعليم والمناهج بصورة تؤدى إلى نشأة الأجيال الجديدة وهى مقتدرة على التفكير بحرية ضمير- ومن دون شعور بالإثم- وبأكبر قدر من الحركية فى النظر إلى الذات، وإلى الأوضاع الإنسانية والاجتماعية، وإلى العالم المحيط بها. ويتفرع عن ذلك إعلاء قيمة الحوار، الذى يمكن أن ينتهى بالاختلاف الخلاق بدلاً من حتمية الاتفاق.
المعرفة الحديثة هى بذاتها قوة. فالثقافة اللفظية، والثقافة التاريخية العاطفية، لم تعد تجدى كثيراً فى التنافس الذى يشهده العالم الحديث. ويستدعى ذلك تربية الناشئة العربية على موقف عقلانى واضح من المشاكل الطبيعية والإنسانية، كما يجب تدريبها على المحاكمة العقلية والاعتراف بالحقائق المتوفرة، مادية كانت أم إنسانية، مداراً للتفكير فى مشاكل الحياة ومنفذاً إلى التماس الحلول لها. ويرتبط بذلك تربية القوة الناقدة عند الناس لكى يستطيعوا فى ضوئها، وبواسطتها، أن يفكروا فى بنى اجتماعية أفضل من تلك التى يحيون فى ظلها الآن.
إن التقدم الهائل الذى يتميز به العصر الحديث إنما جعله ممكناً جرأة الإنسان الخلاقة فى تحدى القيود الطبيعة والأوضاع البشرية غير المواتية لتقدم الإنسان. ولهذا لا بديل عن إثارة روح التحدى فى الإنسان العربى، وبناء قدرته على صنع مصيره من خلال الاستجابة الخلاقة لمحيطه الطبيعى والبشرى.
إن التقانة الحديثة جعلت من الفقر أمراً غير ضرورى. ولا ينجم الفقر فى المجتمعات العربية عن نقص فى الثروات، قدر ما ينتج عن ضعف استثمار هذه الثروات. وتجمع النظريات التربوية الاقتصادية المعاصرة على أن القيمة الحقيقية لأى شئ تكمن فى العمل الإنسانى المبدع. لذا يتعين أن نعيد النظر فى بناء التعليم فى الوطن العربى بشكل يؤكد كرامة العمل والإنتاج، ومعرفة قيمته الحقيقية، وترغيب الشباب فى العلوم التطبيقية والممارسة العملية.
يتمثل النبل الحضارى فى كفاح الإنسان للارتفاع بنفسه إلى مستويات أفضل من المعرفة. وينطوى هذا على أن المناهج والكتب وطرائق التعليم ومدى الإنجاز التعليمى فى البلدان العربية يجب أن تظل عرضة للمحاكمة والمراجعة والمقارنة باستمرار مع الأمم الأخرى المتقدمة.
أخلاقيات تربوية جديدة
إن الصعود إلى هذا الأفق الأرحب، يتطلب من المؤسسة التربوية العربية الالتزام بأخلاقيات مهنية ومجتمعية جديدة تكون ضابطاً لعملها وناضحاً لها بمضمون تربوى جديد.
المساواة التربوية
لقد قامت التربية العربية على التسليم بإمكانية تصنيف الأطفال إلى من هم "مؤهلون للتربية" ومن هم "مؤهلون للتدريب" على عمل من الأعمال أو حرفة من الحرف ولكنهم ليسوا أكفاء للتربية على واجبات المواطنة والاستمتاع بمعطيات العقل والروح، هذه المعطيات التى تمثل شروطاً للحياة الإنسانية الكاملة.
إن هذه المفاهيم يجب أن تختفى من الفكر والممارسة التربوية إذا ما أردنا صدقاً أن نضع حداً للعدوان على حق الأطفال فى نمو عقلى، ونمو اجتماعى متناظر، يؤهلهم لحياة سوية ومسؤولة. إن جميع الأطفال يولدون مؤهلين لتربية كاملة وليس لمجرد التدريب على حرفة من الحرف.
والمجتمع الفاضل يجب أن يوفر لكل أطفاله فرصاً تعليمية متكافئة، دون أن يعنى ذلك إعطائهم كلهم نفس الكمية من التعليم ولا نفس العدد من السنين المدرسية.
وتستدعى النخبوية المتزايدة للتعليم، خاصة فى المراحل الأعلى، فى البلدان العربية، إيلاء عناية خاصة لتمكين أبناء الفئات الأضعف اجتماعياً، خاصة البنات، من الالتحاق بمراحل التعليم المختلفة بما يتناسب مع قدراتهم، وليس بما تحكم به إمكانات أهلهم، المالية أو الاجتماعية. ويقتضى الأمر نوعاً من التمييز الإيجابى لهذه الفئات من أبناء العرب شاملاً منح الالتحاق، وتوفير التغذية السليمة- خاصة فى المراحل الأولى من التعليم- والرعاية الصحية.
ويجب أن تبدأ ممارسة المساواة التربوية قبل مجىء الطفل إلى المدرسة الابتدائية، بمعنى أنه يجب النظر إلى التعليم قبل المدرسى- فى رياض الأطفال على الأقل- على أنه جزء من نظام التعليم العام، وأنه يجب أن يقدم للطفل المحروم على النفقة العامة- حتى إذا استوفاه كان فى مستطاع المدرسة الابتدائية وما بعدها أن تزوده بتعليم متكافئ مع تعليم أقرانه الذين يأتون إليها من بيئات اجتماعية لا تعرف الحرمان من الخدمات التربوية المنظمة قبل المدرسة الابتدائية.
تكامل المقاصد التربوية
لابد من تأسيس حق المتعلم فى أن يُفهم ككيان إنسانى واحد، تستهدف التربية نموه الجسدى والوجدانى والاجتماعى والمعرفى، فى تكامل وانسجام. إذ تتفاعل الديناميكيات العضوية والنفسية والاجتماعية والتربوية كلها لتعطى الفرد شخصيته المتميزة وتجعله ما سيكون فى نهاية المطاف.
لقد كان من مفسدات التربية العربية حتى الآن إغفال الجانب المادى من وجوده واحتياجات نمائه. غير أن التأثيرات الاجتماعية تفعل فعلها فى كائن عضوى فقط، ويؤدى الاختلاف فى "البنية العضوية" بالضرورة إلى اختلاف فى ردود الفعل للمؤثرات الاجتماعية ولذا فإننا لا نفهم استجابة الفرد للمؤثرات الاجتماعية إلا إذا فهمناه على مستوى بنيته العضوية.
إن إغفال دور العامل العضوى طالما أدى إلى سوء فهم التعامل مع المتعلمين وظلمهم إذ جعل المعلمين والمعلمات يفسرون القصور التعليمى أو المسلكى عند الأطفال على أنه حال من التمرد أو عدم الانضباط يجب أن تقابل بالعقوبة بدل التفهم على حين أن الأطفال أبعد ما يكونون عن إرادة التمرد أو رفض الانضباط، بل هم فى كثير من الأحيان لا يعرفون معنى التمرد ولا رفض الانضباط، وهكذا يكون الجور عليهم مضاعفاً، الطبيعة تفسد نظام الأشياء فى وجودهم العضوى، والمدرسة تعاقبهم على فعل الطبيعة فيهم. وفى كلتا الحالتين هم يحرمون من حقهم المشروع فى توقع المعونة على فهم أنفسهم والتخلص من معوقات وجودهم السوى ومن وعى هذا الوجود الحر الذى هو وسيلتهم الوحيدة إلى تكاملهم إيجابياً مع مجتمعهم والظفر بدور فعال لهم فى حياة هذا المجتمع تكسبهم ما هم مؤهلون له طبيعة وشرعاً من احترام الذات والثقة بالنفس والقدرة على الفعل.
مضمون حضارى لتربية عربية مستقبلية
إن التربية يجب أن تساعد الأطفال والراشدين على تفهم أفضل لثقافتهم الخاصة، الماضى منها والحاضر، ولكن فى نطاق مجتمع عالمى يعتبر فيه انفتاح الثقافات الخاصة على بعضها، وحوارها مع بعضها، وإيجابية تعاملها مع غيرها، هو الوسيلة الوحيدة لازدهار أى منها.
فى عصر الإبداع الذى ستولد فيه الأجيال العربية الجديدة سيكون من الذنوب المدمرة الإصرار على التمسك بتربية هذه الأجيال على "التوافق القسرى" مع مواريث بالية فى الزمن الجديد لأن هذا التمسك سيجردها من قدرة "الإبداع" ويعيدها إلى دائرة "الاتباع" المعوِّقة.
لقد آن الأوان للخروج بالتربية من "ماضويتها" إلى "مستقبلية" منعشة تعيد رسم علاقة العرب المحدثين بالتاريخ، والتاريخ العربى على وجه التحديد. فقد قامت هذه العلاقة على سحب الماضى على الحاضر، وتحكيم الماضى فى مسيرة الحاضر تحكيماً يبلغ حد إجهاض إمكانات التقدم فى الأمة وأفرادها. ويعود ذلك لأنها رجحت كفة "الثابت" على كفة "المتحول" من مقومات الحياة المعاصرة، واحتسبت العرب أسرى أمراض تاريخية لم يكن لهما يد فى صنعها ولم يعد لهم- على وجه التأكيد- نفع فى دوامها.
لقد بات لازماً القضاء على أحادية الرؤية فى تفسير الأحداث والدوافع الإنسانية الكامنة ورائها. فالسلوك الاجتماعى العربى يتميز بدرجة عالية من الحدّية. فالأشياء إما خطأ وإما صواب، ولا مكان لمنزلة بين المنزلتين. والمواقف من هذه الأشياء إما الرفض وإما القبول، مع تجاهل احتمالات التعامل المرن والتسليم للزمن بحقه فى توضيح الرؤية أو تنضيج الحلول. وفى كل الأحوال لا مكان لحسن النية وكرامة الاجتهاد عندما يكون التعامل مع الآخرين من موقف الاختلاف فى الرأى والتباين فى تقدير الظروف.
على وجه الخصوص، لقد بُنى التعامل مع التاريخ- دراسة وتدريساً- على مبدئية "السبب الواحد" فى وقوع أحداث التاريخ ونظام سياقها وغالباً ما كان "السبب" فى ذلك "فرداً". إن خطر هذا النمط من تدريس التاريخ يتجاوز النمط فى ذاته إلى إفرازه فى عقول الناشئة إذ إنها ستتعلم أن تنحو النحو ذاته فى تفسير الأشياء وسلوك الآخرين وكيفية التعامل معهم، هذه الكيفية المنبثقة من مبدأ "البعد الواحد" والعجز عن رؤية الأبعاد الأخرى.
لذا تقوم حاجة لتطوير تدريس التاريخ بحيث يزوّد الناشئة بنظام جديد فى التفكير يستبعد وحدانية السبب فى وقوع الحدث التاريخى، ومن ثم ينسحب على السلوك العام للفرد أو الجماعة فيبتعد به عن "البعد الواحد" فى الرؤية الاجتماعية، وبهذا نقرّب هذه الناشئة من جوهر الطريقة العلمية، خاصة فى تنظيم العلاقات الاجتماعية.
ومن جانب آخر، من أجل أن لا نكرر خطيئة الحياة على هامش التاريخ، لابد أن تشتق غايات العمل التربوى من الرؤى الكونية لتربية القرن الحادى والعشرين. فيجب أن تصل التربية العرب بالعصر الذى سيعيشون فيه، وهو عصر محكوم بمبادئ علمية، مثل مبدأ "النظام" ومبدأ "الطريقة" السليمة التى تؤدى إلى فهم سياقات السبب والنتيجة فى تحليل وقوع الظواهر الطبيعية والاجتماعية. لقد أدى التسليم بوجود "النظام" و "الطريقة"- فى العالم الصناعى- إلى أن يمتلك الإنسان زمام نفسه ويتعلم كيف "يتقدم"، لا نظرياً وحسب بل وأخلاقياً وعملياً أيضاً، فى شؤون الحياة كلها.
وستكون مهمة التربية فى القرن القادم تهيئة الأفراد لتحقيق طاقاتهم الداخلية، والسعى من أجل دور نافع لهم فى المجتمع. إن التربية يجب أن تقود الناشئة إلى التطلع إلى مستقبل يكتنفه عدم التأكد، وتكون وظيفة التربية فى عملية التطلع هذه مساعدة الناشئة على اكتساب المرونة لمواجهة هذا المستقبل، وفى الوقت ذاته المساعدة فى عملية تشكيله.
على وجه التحديد، يتعين تجديد فهم ما يتوقع من التربية أن تنشئ الأفراد عليه من مفاهيم ونظم تفكير وخبرات ومهارات تمكنهم كذوات فردية، وكأعضاء فى كيانات اجتماعية، من منافسة الأمم الأخرى فى ميادين الاقتصاد والتحليل الرمزى اللذين هما نداء المعركة الحضارية فى القرن القادم. إن ما يحتاجه الفرد العربى للصمود والتفوق فى حومة "العولمة" هو القدرة على التفكير السليم وحل المشاكل والإبداع فى مواجهة ظروف الحياة الجديدة، وستكون عدَّته إلى ذلك رصيد ضخم من المفردات اللغوية، المرمّزة وغير المرمّزة، وفهم عميق للوضع الإنسانى فى الكون المحيط.
بداية، لابد من توافر كفايات أساسية يجب أن يحققها التعليم فى الأطفال، هى كفايات الضرورة الوظيفية للعيش فى العالم المعقد الذى صاروا يولدون فيه. الأمر الذى يوجب اكتساب الأطفال- كل الأطفال- للعُدد التربوية التالية: حيازة اللغة المنظمة، نمو القدرات العقلية، وتوسعة فهم الفرد للعالم المحيط به.
ويتطلب ذلك تطوير المهارات الآتية: الكفاية فى استعمال اللغة القومية ومهاراتها المتنوعة مثل القراءة والكتابة والكلام والإصغاء والملاحظة مع تأهيلهم لامتلاك لغة عالمية أخرى. والتمكن من العمليات العلمية الأساسية كالقياس والتخمين والتقدير والعمليات التفاضلية. والتمرين على استعمال المبتكرات الرمزية مثل الحاسب الآلى والأدوات العلمية الأساسية وهى أدوات التحليل الرمزى.
إن النموذج المعيارى للتربية فى العصر الجديد هو "التحليل الرمزى" وستقاس قوة الأمم العلمية فى القرن القادم بعدد "المحللين الرمزيين" الذين تعدّهم وتفتح لهم هامشاً واسعاً من الحرية للإبداع والابتكار. إن الأمم التى ستمتلك أكبر عدد من هؤلاء المحللين الرمزيين هى الأمم التى ستكون أكثر فعلاً فى الوضع الاقتصادى العالمى الجديد وهى ستكون الأقدر على تحليل وتشخيص وحل ليس مشاكل الاقتصاد والإنتاج فقط، ولكن ستكون لها المعرفة والمعلومات اللازمة لتحليل المشاكل الاجتماعية والأوضاع العسكرية المحتملة أو المفاجئة، كما سيكون فى مقدورها بيع واستثمار خبرات وكفايات محلليها الرمزيين فى السوق الدولية لأغراض متنوعة. وتقوم تربية "المحلل الرمزى" على أربعة عناصر يتوجب على التربية استيعابها: التجريد، التفكير وفق منطق النسق، التجريب، والعمل المشترك.
ثانياً: السياق العالمى والإقليمى للتربية
إن تيارات جارفة فى العالم تضع العرب أمام تغيرات بعيدة المدى، تعيد تشكيل الحياة الإنسانية بمختلف أبعادها. وتضم الجوانب الجوهرية فى البيئة العالمية. أولاً، الثورة التقانية والمعرفية، التى تغير جوهرياً من معالم البنيان الاقتصادى وفنونه الإنتاجية وبنية الإنتاج- حيث تخلى القطاعات التقليدية السبيل أمام المعلوماتية والاتصالات والخدمات، وثانياً، عولمة العملية الإنتاجية. وتنطوى هذه التغيرات على تبعات اجتماعية وثقافية- وربما سياسية- واسعة وعميقة، من ناحية. وهى تحمل بوجه عام مخاطر محتملة على الوطن العربى يتعين التحسب لها، من ناحية أخرى. غير أن الاهتمام ينصب هنا على الانعكاسات المتوقعة على التربية فى البلدان العربية.
الثورة التقانية والمعرفية
يتسارع فى الدول المتقدمة ظهور فنون إنتاجية كثيفة المعرفة. وتدفع الثورة التقانية، بأبعادها المادية والاجتماعية، الدول النامية إلى إحداث تغيرات جذرية ليس فقط فى هياكلها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، بل أيضاً فى هياكل علاقاتها الدولية، ابتداء من مواقع شديدة الضعف تجاه القوى الخارجية. خاصة وقد عمدت الدول المتقدمة، فى قيادتها للتطوير التقانى، إلى توجيهه بما يتفق بدرجة أكبر مع تركيبة الموارد لديها.
وبذلك يتأكد دور المعرفة كعنصر إنتاجى حاكم. إن حقبة صعود المعرفة تمكن من يعلم من أن يتجاهل- بل ويستبعد- من لا يعلم. وبالتالى تصبح المناطق التى تعيش عالة على ما يحدث من تقدم تكنولوجى فى باقى العالم، كما هو الحال فى المنطقة العربية، معرضة للتهميش المستمر الذى يفقدها أهميتها الاقتصادية. ولن يكون هناك عطاء فى مجال المعرفة إلا من خلال النهوض بالتعليم. ولا يقتصر عائد النهوض بالتعليم على الفرد، بل هو يساهم فى الواقع وبالدرجة الأولى فى رفع قدرات المجتمع على النمو، إذا أحسن توجيهه.
إن التقدم أصبح يقوم على، وفى الوقت نفسه يؤدى إلى، امتزاج للمعارف العلمية، وإسقاط الحدود التقليدية بين فروع المعرفة، وإنشاء فروع جديدة، وفتح آفاق رحبة أمام الكثير من العلوم الأساسية والتطبيقية. وتحقق الشبكة المكونة من منظومتى البحث والتعليم مزايا علمية متصاعدة، من خلال تزويد المجالات العلمية المتجددة بخلفية ترفع من كفاءة كل منها.
وتتأكد باستمرار ظاهرة المضاعف التقانى، بمعنى ما يستتبعه التقدم التكنولوجى من مزيد من التقدم. ويرتبط بها أن الدخول فى مجالات تقانية جديدة لا يمكن أن يتم من خلال آليات السوق التلقائية. فالولايات المتحدة مثلاً استغلت برامج التسليح وغزو الفضاء فى توليد طلب- لم يكن ليأتى من قوى السوق العادية- على أنشطة بحثية فى مجالات جديدة، فاتضحت، بالتبعية، ضرورة النهوض بمنظومتها التعليمية.
ومن جانب آخر، فإن الدول النامية (ومن بينها العربية) عندما تستورد سلعاً متطورة تكنولوجياً من دول متقدمة، فإن جانباً مما تدفعه ثمناً لها يذهب إلى تمويل العمليات البحثية فى هذه الأخيرة، محدثاً أثراً مضاعفاً.
وفى المنظور العربى، يعنى كل ذلك ضرورة استكمال الحلقة الداخلية التى تربط الطلب الاقتصادى بالبحث العلمى والتطوير وبالمنظومة التعليمية، بشكل يتعدى آليات السوق التلقائية، وهو ما يحتاج- فى الحقيقة- إلى تكامل عربى، إذ أن القدرات العلمية لكل دولة منفردة تظل محدودة، لاسيما فى مراحل النمو المبكرة.
ويؤدى التقدم العلمى والتقانى إلى تراجع المهارات التقليدية أمام المعرفة والقدرة التقنية، وهو ما يترتب عليه إحداث تحولات رئيسية فى هيكل العمالة. ويمكن القول إننا بصدد نوع جديد وراقٍ من الحرفية، تتوقف فيه وضعية العامل ليس فقط على تحصيله المعرفة التراكمية التى تمكنه من إجادة تطبيق أنماط متعارف عليها للعمل، بل على قدرته على الإبداع. إن هذه التطورات تضيف أبعاداً كثيرة إلى الإعداد التعليمى للفرد، تشمل بالإضافة إلى التكوين المهنى، القدرة على مواصلة التعلم، والإلمام بالجوانب القانونية والأوضاع الاجتماعية، بل وإدارة استخدام الوقت.
ويتسم التطور التقانى والمعرفى، بالإضافة لما سبق، بسمات جوهرية، لها تبعات مباشرة على التعليم، يمكن إيجازها فى النقاط الآتية:
سرعة الإيقاع وضخامة الإنجاز، حيث يقدر أن المعرفة العلمية باتت تتضاعف فى أقل من عقد من الزمان، بينما يتضاعف الإنتاج العلمى فى أقل من عامين.
يترتب على ذلك الإيقاع السريع حاجة الفرد إلى استيعاب كمّ كبير ومتجدد من المعرفة على مدى سنوات العمر، وهو ما يطيل فترة التعلم ويوزعها على مراحل متعاقبة. وبالتالى قصور أى محاولة لتزويد الفرد فى مستهل حياته بمخزون من المعرفة المتراكمة عن تمكينه من ملاحقة المعارف التى تستجد، ليس فقط فى الجوانب التطبيقية، بل وأيضاً فى العلوم الأساسية.
تؤدى سرعة التغير، وتفاوت قدرات الاستيعاب مع تقدم العمر، إلى تغير العلاقات الأسرية والعلاقات بين الأجيال المتتالية، بما فى ذلك أجيال المعلمين، وبينهم وبين الطلاب.
تزايد عدم التأكد تجاه المستقبل، وهو ما ينشئ حاجة إلى تعميق القدرات على التنبؤ وإعادة التنبؤ، وإلى مداومة اتخاذ قرارات ذات أهمية مصيرية إلى جانب القرارات الوظيفية المعتادة.
وعلى جانب آخر، يتيح التقدم التقانى إمكانيات ضخمة لتطوير أساليب التعليم، وإتاحة وسائل التعلم، والوصول بالتعليم إلى مختلف الأماكن أيا كان بعدها عن مراكز التجمع العمرانى، أو مدى انحصارها فى الإطار الأسرى- كما هو الحال بالنسبة للإناث فى بعض المجتمعات العربية، وإلى مختلف الأعمار.
عولمة العملية الإنتاجية
لقد مكنت العولمة، التى تعنى حدوث تغيرات موضوعية فى قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج نتيجة الثورة التقانية والمعرفية بأبعادها سالفة الذكر، من الحديث عن القرية العالمية، نتيجة كثافة تبادل المعلومات بين الأمم، بما فى ذلك القيم والمعتقدات. فقد جعلت الثورة التقانية والإنتاجية التقارب الجغرافى غير ذى شأن، لأن قطع المسافات لا يستغرق زمناً يذكر، سواء من أجل الانتقال الفعلى أو انتقال الأفكار التى تصل الإنسان بالآخرين.
وعلى الرغم من أننا مازلنا بصدد ظاهرة فى طور التشكيل، فقد بتنا إزاء نظام عالمى لا دولى، ترسم خطوطه قوى عدة، منها مجموعة الدول الكبرى (السبع) والشركات عابرة القوميات، وحركة رؤوس الأموال فى العالم، والمؤسسات العالمية التى توجه حركة العلاقات، وتغير طبيعة الأسواق إلى ما بات يعرف بالأسواق العالمية، باختصار هناك تحركات مجتمعية تعيد ترتيب أمور العالم مستندة إلى الإمكانيات التى أطلقتها الثورة التقانية.
ويطرد تزايد الترابط أو الاعتماد المتبادل بين الدول، وفى الوقت نفسه تغيرت أدوات هذا الترابط، إذ لم تعد مركزة على التبادل التجارى، بل بدأت عمليات انتقال المعلومات والخدمات تحتل موقعاً متقدماً. وإذا كان هذا الترابط يساعد على تقريب أدوات المعرفة من الراغبين فى التعلم، إلا أنه يترك الحركة خارجة عن السيطرة اللازمة للاطمئنان إلى سلامة المحتوى العلمى وتلاؤمه مع الأصول التربوية. بعبارة أخرى، يزيد هذا الاعتماد المتبادل من وقع ما يسمى "الغزو الثقافى".
وينطوى التغير فى الهياكل الاقتصادية على تقدم موقع الخدمات، ليس فقط على القطاعات الأخرى بل وأيضاً فى ضبط إيقاع النشاط الاقتصادى على الصعيدين القطرى والعالمى. لذلك تقدمت التجارة فى الخدمات، ومنها الخدمات التعليمية- خاصة فى المراحل الأعلى، لتشغل حيزاً هاماً من التبادل الدولى، مما جعل الدول المتقدمة تدفع المجتمع الدولى إلى تنظيم التعامل فيها على نحو يحافظ على قدراتها الاحتكارية بدعوى حماية "الملكية الذهنية"، التى باتت تحتل موقعاً متقدماً على ملكية الثروات الطبيعية والمادية التى تغلب على تركيبة الثروات العربية (إن وجدت).
وينشئ تبادل الخدمات صلة مباشرة بين منتج الخدمة ومستهلكها، لها عواقبها الثقافية والاجتماعية، ومن ثم السياسية. وساعدت ثورة الاتصالات على تغيير معالم الكثير من الخدمات، من أنشطة ذات طبيعة محلية غالبة، إلى أنشطة تتصف بالعالمية، وهو ما غير من مغزى الأسواق المحلية، كما فرض تقارباً فى فنون الإنتاج ونوعية المنتجات لمسايرة التطور الذى تقوده الدول المتقدمة.
كذلك أصبحت حرية انتقال رأس المال من الأمور التى تعيد تشكيل اقتصادات الدول المختلفة، فضلاً عن تنامى تيار فكرى بات يسيطر على الدول النامية بضرورة القيام بجذب الاستثمارات الأجنبية، ويدفع للاستجابة إلى مطالب أصحاب رأس المال باتخاذ كل ما يلزم لتيسير ما يسمى "النفاذ إلى الأسواق"، بمعنى تهيئة المناخ الاستثمارى الذى يوفر حرية دخول رأس المال وخروجه وفق ما تمليه عليه مصلحته.
ولكن حتى فى منظور جذب رأس المال، فإن القضية الأساسية هى العمل على خلق مزايا قوامها البشر. فرأس المال، وطنياً كان أم أجنبياً، يبحث فى عصر التقدم التقانى، عما يرفع إنتاجيته ويعينه على حسن تطبيق التقانة وعلى تطويرها. وقد أدركت الدول المسماة بالنمور فى جنوب شرق آسيا هذه الحقيقة، فعملت على النهوض بالعنصر البشرى لا ليكون عملاً رخيصاً (فقط) بل ليكون مرتفع الإنتاجية، وبالتالى قادراً على تعظيم ربحية رأس المال، وعلى اجتذابه.
وتعنى العولمة تحول شركات كبيرة إلى شركات دولية النشاط، ثم اتخاذها شكل عابرات للقوميات، تستفيد من ترابط الأسواق المالية العالمية، بل تعمل على السيطرة عليها. أى أن تطور هذه الشركات يرتبط بتوسع حركة رأس المال على النطاق العالمى، وهو ما يعطى قضية النفاذ إلى الأسواق دفعة قوية بمساندة هذه الشركات، وتأثيرها على مراكز اتخاذ القرارات فى الدول المتقدمة.
ويُحدث تغلغل عابرات القوميات نوعاً من "هجرة" الأفراد، حتى داخل مواطنهم، حيث يرتبط ولاؤهم بالمؤسسة الكبرى. وينتهى بعضهم، خاصة الكفاءات، منتمياً إلى "الشركة" أكثر، سواء بقى فى الموطن الأصلى أو تركه معها. الأمر الذى يعنى أن ظاهرة هجرة الكفاءات التى تعانى منها الدول العربية سوف تقوى، وبصيغ مختلفة.
ولهذه التغيرات انعكاسات على قواعد السلوك وأنماط التعليم فى الدول النامية، إذ تؤدى إلى تغيير مواصفات القوى العاملة فيها، وهو تغيير مستمر بسبب التطورات المتلاحقة فى أساليب الأداء، الأمر الذى يتطلب إعادة التدريب بالإضافة إلى التغيير المستمر فى مناهج وطرق التعليم التخصصى. ويمتد الأمر إلى أساليب السلوك اليومى. إذ لهذه التطورات متطلباتها غير المباشرة، منها الإلمام بلغات أجنبية وإنشاء شبكات اتصال أفراد ومؤسسات ينتمون إلى دول متقدمة.
كما أن دخول الدول النامية حلبة المنافسة فى التصنيع، انطلاقاً من قاعدة تقانية محدودة (إن وجدت أصلاً) يلزمها بالانصياع لمواصفات للمنتجات تحددها الدول الصناعية فى إطار الالتفاف الذى تقوم به على حرية التجارة التى تطالب بها. بل هى تفرض شروطاً للإنتاج تتيح لها التدخل فى العملية الإنتاجية بدعوى الاطمئنان إلى سلامتها. إن ما يدعى النفاذ إلى الأسواق، هو فى النهاية "نفاذ إلى المجتمعات" بأدوات جديدة.
وزيادة على ذلك أنشأ ارتفاع الدخل الريعى غير المواجه بإنتاج فعلى محلى فى البلدان العربية، نزعات مرتفعة للاستيراد، نشرت أنماط استهلاك بذخية أضرت بالقيم الذاتية. وعززت هذه الأنماط المشوهة قوة تأثير أدوات الاتصال.
وتنطوى "الهجرة العكسية" على تمكين أفراد اكتسبوا صفة رجال الأعمال فى الخارج من تشكيل الطليعة التى يدفع بها رأس المال العالمى، لتفتح أمامه أبواب الاقتصاد الوطنى، حاملين معهم الثقافة الأجنبية التى اكتسبوها- بما فيها اللغة- سواء فى جانب المعرفة المهنية أو القيم والعادات.
ونتيجة لكل ذلك، يتحدد جانب هام من سلوكيات الأفراد، المهنية والثقافية، فى سياق العولمة، خارج المنظومتين التعليمية والتربوية، مما يفرض عليهما واجباً إضافياً، لمواجهة ما يمكن تسميته ظاهرة المسخ الثقافى. حيث تقدم حزمة ذات أبعاد ثقافية ومعرفية ومادية على أنها حضارة متكاملة إما أن تؤخذ كلها فيكون التقدم، أو تترك كلها فيكون التخلف.
الواضح أن الأمر يتطلب توجيه التعليم العربى إلى حماية المنظومة الثقافية الذاتية وتوظيفها لخدمة التقدم العربى، إلى جانب عنايته بتطوير الجانب المهنى الذى يعالج مباشرة الجوانب المادية.
وتُدخل العولمة تغييرات جوهرية على النظم الاقتصادية لجميع الدول، بغض النظر عن اختياراتها الذاتية ومستويات نموها حتى تتوافر للمستثمرين ولمراكز اتخاذ القرار فى عابرات القوميات القدرة على إجراء مقارنات وفق أسس معيارية، وتنفيذ هذه القرارات بأقل قدر من القيود التى يترتب عليها تكلفة إضافية أو تعذر الحركة فى الوقت المناسب. وبينما تضع الدولة قيوداً على الحياة الاقتصادية ترى أنها ضرورية لتحقيق صالح المجتمع، فقد تعيّن أن يتراجع دورها هذا، وأن يسلم أمر التسيير إلى قوى السوق، بدعوى أنها تعمل بموضوعية وحيادية، تعكس تقابل مصالح جميع الأطراف.
فيجرى العمل على إزالة العوائق أمام العلاقات بين الاقتصادات بما يجعلها أقرب إلى العمل كما لو كانت اقتصاداً عالمياً واحداً، فى بعض الجوانب على الأقل (ليس من بينها حركة البشر بوجه خاص).
ويترتب على ذلك تقلص الإيرادات العامة نتيجة التخلى عن فوائض القطاع العام إلى الأفراد الذين يستولون على المنشآت العامة من خلال عمليات الخصخصة، والإعفاءات الضريبية التى يتمتع بها المستثمرون الذين يطالبون فى الوقت نفسه بتحسين البنية الأساسية بما يساعد على دفع النشاط الاقتصادى وربط الاقتصاد الوطنى بالعالم الخارجى، ويستتبع هذا تقليصاً أكبر فى الإنفاق العام.
وعلى عكس ما يقال من أن الدولة يجب أن تتخلى عن النشاطات الاقتصادية التى تنتج للسوق إلى القطاع الخاص، حتى يتسنى لها أن تركز على المنتجات ذات النفع العام، كالمرافق والخدمات الأساسية، فإننا نجدها تتخلى عن الاستثمار فى الثانية أسرع، الأمر الذى يقلل من الإنفاق على التعليم بما يفضى إلى تزايد حرمان الفئات الاجتماعية الضعيفة من فرص التعليم- حتى الأساسى. ويروج فى سياق هذا المنهج أن التعليم، فيما يتجاوز التعليم الأساسى، هو خدمة تفيد الفرد عليه أن يتحمل تكلفتها، مما يضع فرصة الالتحاق بالتعليم فى المراحل بعد الأساسية فى مواجهة خطر أكبر.
(((يتبع)))
المفضلات