الموضوع : الخشوع في الصلاة
الشيخ أحـمد بـن حـمـد الخـليـلـي
المفتي العام لسلطنة عمان
السؤال(1)
نريد منكم أن تبينوا لنا حقيقة الخشوع ومعناه ؟
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلّم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فإن الخشوع في الصلاة هو روحها ، إذ الصلاة بدونه هي بمثابة الجسم الذي خلا من الروح ، والجسم إن كان خالياً من الروح فإنه لا حراك له ولا إحساس له ولا أثر له ، ولذلك كانت صلاة كل أحد بحاجة إلى أن يكون فيها خاشعا ، ولذلك نيط الفلاح بالخشوع كما في قوله تبارك وتعالى ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:1-2) ، وفي الحديث الذي أخرجه الإمام الربيع رحمه الله من رواية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام قال : لكل شيء عمود ، وعمود الدين الصلاة ، وعمود الصلاة الخشوع ، وأكرمكم عند الله أتقاكم .
فإذاً لا بد للإنسان أن يكون خاشعا .
ما هو هذا الخشوع ؟
الخشوع حقيقته أن يستحضر الإنسان عظمة المقام ، وأن يستحضر حقيقة المقال .
فعظمة المقام أن يحس بأنه بين يدي الله تبارك تعالى يناجيه فيجب عليه في هذه الحالة أن يكون قد تجرد من أوزار هموم هذه الحياة الدنيا ، ومعنى ذلك أن يكون هذه الهموم قد حطها عنه جانبا ، فالتاجر لا يشتغل بتجارته ، والحارث لا يشتغل بحرثه ، وصاحب العمل الإداري لا يشتغل بعمله ، وصاحب أي مهمة في هذه الحياة الدنيا لا يشتغل بمهمته ، وإنما يقبل على ربه سبحانه وتعالى ، فكما يقبل في ظاهره بوجهه بحيث يتوجه إلى البيت الحرام ، يقبل في باطنه بقلبه بحيث يكون هذا القلب فارغاً من كل شغل آخر ما عدا ما هو مقبل عليه .
كما أن عليه أيضاً أن يستحضر حقيقة المقال ، أي أن يكون ما يتحدث به في صلاته مما يأتي به من ذكر أو تلاوة يسبق معناه إلى ذهنه ، بحيث يكون لا يلفظ بقول إلا وقد سبق معنى هذا القول إلى ذهنه واستوعبه تماماً .
فعندما يمثل بين يدي الله تعالى ويدخل في صلاته بتكبيرة الإحرام ، عليه أن يستحضر معنى هذه التكبيرة لينسكب في نفسه شعور بأنه بين يدي الله تعالى الكبير المتعال ، وأن الكبرياء لله وحده ، فما له من الكبرياء شيء ، ولا يحق له أن ينازع ربه تبارك وتعالى كما جاء في الحديث القدسي : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ، فمن نازعني فيهما أدخلته النار ولا أبالي .
فليس له أن ينازع ربه تبارك وتعالى شيئاً من صفاته ، ومن بين هذه الصفات صفة الكبرياء والعظمة ، ولئن كانت الكبرياء لله تعالى وحده فعليه أن يخضع وأن ينقاد ، وأن لا يتكبر على أحد من خلق الله .
فإن كان ممن أوتي في هذه الدنيا شيئاً من الوجاهة أو شيئاً من السلطة أو شيئاً من المال أو نحو ذلك مما يعده الناس مظهراً من مظاهر العظمة والكبرياء في هذه الحياة الدنيا فإن عليه أن يشعر أن ذلك كله لا يرفع من قدره إن هو تكبر على أحد من خلق الله ، فعليه أن يتصاغر وعليه أن يتطامن وعليه أن يدرك عظم الموقف الذي يقفه .
ولئن كان أيضاً على عكس ذلك كأن يكون فقيراً مزدرىً به فإنه بمجرد ما ينطق بهذه الكلمة كلمة ( الله أكبر ) يشعر بأن الكبرياء لله وهو بجانب تطامنه وتواضعه لله تبارك وتعالى ذي الكبرياء يحس بالاعتزاز بصلته بالله فلا يخضع إلا لله ، ولا يطأطأ رأسه إلا لجلاله سبحانه وتعالى ، ولا يحني ظهره إلا لكبريائه فيكون بين يدي الله تعالى عبداً خاضعاً ذليلاً ، وبين أيدي الناس سيداً رفيع القدر كريما لأنه اتصل بربه سبحانه وتعالى ، ولا يعني ذلك أن يتكبر على الناس ، ولكن أن يحس بين الناس بأن الكبرياء لله تعالى وحده والناس متساوية أقدامهم بين يديه عز وجل .
وكذلك إن استعاذ بالله من الشيطان الرجيم عليه أن يستحضر ما معنى هذه الاستعاذة ، فمعنى أستعيذ ألجأ فإذاً عليه أن يلجأ بقلبه ، وعليه أن يلجأ بعقله ، وعليه يلجأ بعمله قبل أن يكون هذا اللجوء مجرد قول من الأقوال ، ومعنى ذلك أن يحس من قلبه بأنه فار إلى ربه سبحانه من الشيطان الذي أقسم بعزة الله عز وجل انه ليضلنه ، وعليه أن يحرص على أن يكون عمله متفقاً ومنسجماً مع هذا الذي صدر منه .
كذلك عندما ينطق بعد ذلك بقول ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة:1) يشعر أن كل شيء لا يعتد به إلا إن كان لله ، فباسم الله يقرأ ، وباسم الله يصلي ، وباسم الله يأتي أي عمل من الأعمال ، لأن الأعمال يجب أن تكون لله .
ومع هذا عندما يأتي بقول الحق تعالى ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2) يشعر بالنعم العظيمة التي غمرته والتي لا يمكن أن يحصيها قط ، ولا يمكن لأحد أن يحصيها ، ولا يمكن للعالمين أن يحصوها ، هذه النعم هي من عند الله وحده فلذلك كان الحمد لله تعالى وحده ، ومع ذلك فالله تعالى متصف أنه رب العالمين ، إذ ربوبيته سبحانه وتعالى ليست محصورة في شأن هذا العبد وحده بل هي شاملة لجميع الكائنات فما من ذرة في الكون إلا وهي مغمورة بتربية الله تبارك وتعالى لها ، وهي مشمولة بنعمته تعالى عز وجل عليها ، فإذاً هذه الكائنات كلها هي مظاهر لربوبيته تبارك وتعالى من الذرات الدقيقة إلى المجرات الواسعة ، وهذا أمر يدعو الإنسان إلى أن يجف قلبه وترتعد فرائصه ويشعر بالقشعريرة تسري في كل عضو من أعضائه لأنه وقف بين هذا الرب العظيم الذي هو موصوف بهذا الشأن العظيم ، إلا أنه تفيض على نفسه الطمأنينة عندما يتلو قوله تعالى (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة:3) فهذه الربوبية وهذه العظمة لله تبارك وتعالى هي في الحقيقة ربوبية إحسان ، وهي عظمة مقرونة بهذا الإحسان العظيم الذي يحسنه على عباده .
وعندما يتلو قوله تعالى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة:4) يستشعر الوقوف بين يدي الله تعالى في ذلك اليوم ، اليوم الذي يتخلى فيه كل شيء عنه ، ولا تبقى له صلة بأي كائن آخر إلا صلة التقوى وخوف الله تبارك وتعالى والعمل لذلك اليوم وهذا مما يحفزه إلى الاستعداد للقاء الله تعالى في ذلك اليوم .
فإذا تلا بعد ذلك قوله سبحانه وتعالى ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) شعر بأنه هو واحد من أولئك الذين يسبحون بحمد الله ويسجدون لجلال الله ، فالعبادة تقدّم إلى الله بصيغة جماعية والكل يعبد الله وحده ، إياك نعبد : أي لا نعبد إلا إياك ، فالعبادة الحقة لا تكون إلا لله ، فعليه أن يكون صادقاً في قوله هذا ، بحيث لا يتشبث بشيء مما يتنافى مع هذه العبادة الخالصة لوجه الله ، لا يتعلق بالأوهام ، ولا يتعلق بأي شيء مما يجعله بعيداً عن التوجه إلى الله ، فهو وإن عمل أي طاعة لأحد من الناس إنما يعملها في الحقيقة لله لأن الله تعالى أمر بتلك الطاعة ، ولا يطيع أحداً إلا بموجب ما أمر الله تعالى عز وجل من طاعته ، وكذلك الاستعانة ، الاستعانة بالله تعالى وحده ، لا يستعين بغير الله تعالى إنما يستعين بالله ، فكما يُفرده تعالى بالعبادة يُفرده سبحانه وتعالى أيضاً بالاستعانة .
فالاستعانة في الحقيقة إنما هي بالله ، وما جعله الله تبارك وتعالى من وسائل للتعاون فيما بين الناس من مسائل للعون فذلك إنما هو في الحقيقة من باب الأخذ بالأسباب ، وعلى الإنسان أن لا يشتغل بالأسباب عن مسببها ، فعليه أن يلحظ مسبب الأسباب وهو يأخذ بهذه الأسباب ، فالاستعانة الحقيقية إنما هي بالله ، على أنه لا يحق لأي أحد أن يستعين بغير الله تعالى فيما لم يجعل الله التعاون فيه من سنن هذه الحياة ، فليس له أن يأتي إلى أي أحد ليقول له ارزقني ولداً مثلاً أو اجعلني من أهل السعادة أو اجعلني من الأبرار أو اجعل لي حظاً أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله فإن ذلك من الشركيات ، ولئن كان ذلك يُمنع أن يكون بين الإنسان وبين الحي المتصرف الذي هو حسب مظهره قادر وعالم ومتصرف في شئونه فإنه يُعتبر ذلك أشد جرماً وأعظم إثماً وأوغل في الكفر عندما يكون بشيء لا حراك له ، بشيء لا يملك نفعاً ولا ضرا كأن يأتي مثلاً إلى قبر ليطلب صاحب القبر وهو رهين تحت أطباق التراب أن يقضي حاجته أو أن يرزقه شيئاً ما ، وكذلك عندما يأتي مثلاً إلى شجرة أو إلى حجرة أو إلى عين أو إلى أي شيء من هذا القبيل .
فإذا قال بعد ذلك (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:6-7) شعر أنه بين طريقين ، طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، وطريق الذين ضلوا وغضب الله عليهم بسبب ضلالهم وانحرافهم عن منهج الحق ، فعليه أن يسلك طريق أولئك وأن يجعلهم له وقدوة وأسوة ، وأن لا يزيغ عن الطريق الذي يبلغه رضوان الله تبارك وتعالى ، ويبلغه نعمة الله تعالى في الدار الآخرة ، وهكذا كل ما يتلوه المصلي في صلاته ، وكل ما يأتي به من تسبيح أو تكبير أو أي شيء من الأذكار إنما يُفيض مثل هذه المشاعر على نفسه ، وبهذا يكون هذا الإنسان خاشعاً حقا .
يتبع لطفا 0000
المفضلات