مداخلة حول... العنف والدعوة
أحداث العنف التي تعيشها السعودية اليوم، نمط مشابه إلى حد كبير لما كان يجري في مصر والجزائر قبل سنوات.
وإذا اختلفت الأسماء بين الجماعة الإسلامية، والجهاد في مصر، والجماعة المسلحة في الجزائر، إلى تنظيم القاعدة، فالأمر كما قيل: تنوعت الأسماء,,, والموت واحد!
وقد تلتقي عند هذه الأعمال التدميرية آمال المحبطين واليائسين والمقهورين أو حتى المظلومين، وأحياناً من لا يزالون في مقتبل سني حياتهم، ولم يتلقوا من النظر العقلي الراشد، أو من التجربة الحياتية الغنية، ما يجعلهم يتقنون فن التقويم، ويضبطون زاوية الرؤية.
هذه الأعمال انتحار، لأن أصحابها أغلقوا على أنفسهم المنافذ، وسدوا الأبواب، وأحكموا الحصار، فلم يعد أمامهم المزيد من الخيارات.
والمقطوع به في سجل الحياة أن الإنسان كلما وسع الخيارات على نفسه كان أرشد وأوفق؛ لأنه قد يبدو له في الغد ما لم يكن اليوم له في حساب، ورحم الله العقاد إذ يقول:
ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجى
وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد
وفي القول أو الفعل؛ أن تجعل لنفسك العديد من الخيارات، فذلك أصوب من ركوب طريق قد تحملك عليه لجاجة أو غضب، أو تؤزّك عليه نزوة تزول، فإذا بك مكبل اليدين في الدنيا، عاجزاً عن التدارك، أو معايناً للخسار في الآخرة، ولات ساعة مندم.
وما بي هنا أن أدخل أحداً جنة ولا ناراً، لكنه الحساب.
وقد تأملت سياسات الدول الكبرى فرأيتها لا تحكم بخيار واحد، ولكنها تضع نفسها ما استطاعت في الدائرة التي تمكنها من تطوير خياراتها، ومراجعة مسيرتها، وعدم الاستئسار أو الالتزام بطريق لا محيد عنه.
وهذا ممكن في حالات كثيرة، ولكنه يعز على مَن حمل السلاح، واحتكم إلى البندقية، وأحرق السفن.
ثم هي أعمال تدخل في دائرة التدمير باعتراف أصحابها قبل غيرهم، فهي لا تبني بيتاً، ولا تؤسس جامعة، ولا تنشئ مدرسة، ولا تقيم مصنعاً، ولا تفتح شارعاً، ولا تعلم جاهلاً، ولا ترشد ضالاً,,, ولا تطعم جائعاً، ولا تعالج مريضاً، ولا تكسو عارياً,,,ولا,,,,ولا,,,
إن جميع مشاريع البناء والتشييد والإعمار والتنمية عندها مفقودة، أو مؤجلة على أقل تقدير، ومؤجلة إلى متى؟!
مؤجلة إلى المستقبل الذي جرت السنة الربانية أنه لا يجيء؛ لأنك لا تجني من الشوك العنب!
وليس أحد ـ والله أعلم ـ خاض معركة إلا وهو يتوقع النصر في نهايتها، ما لم تكن المعركة مفروضة عليه، لكن هناك من يصدق توقعه لأنه ينطلق من إمكانية واقعية صادقة مبنية على رؤية وتخطيط، وهناك من يخذله ظنه، لأنه بناه على حماس شاعل في قلبه، أو شجاعة جاهلية، أو غضبة مضرية.
ولأنها الخيار الوحيد فإن صاحبها لا يسمع فيها نصح ناصح، ولا يعبأ باعتراض معترض.
وكيف يسمع مثل هذا في أمر لم يعد أمامه طريق سواه، إلا أن يكون لديه من البصيرة أو التقوى الشيء الذي لو كان لديه لما سلك هذا المضيق أصلاً، وإن كنا لا نحجر واسعاً فتوبة الله تعالى وسعت العائدين إلى رحابه من الكفار فمن دونهم، حتى أولئك الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، قال ربهم سبحانه: «ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا»، ولكني أقول عن معاناة مع العديد من أولئك الذين تشربت نفوسهم هوى الافتتان، واختصروا طريق الحياة الطويل اللاحب المتشعب، بطلقة من رصاص، أو سيارة مفخخة.
إنني أعلم علم اليقين أن ممن ينادون بتغيير الدنيا وإصلاح مجريات الحياة من لو أسند إليه إدارة شعبة أو فصل في مدرسة، أو متجر في إحدى زوايا الحي لأخفق وفشل, ليس لأنه فاشل بالفطرة، ولكن لأن التجربة والتدريب ضرورة للنجاح، ولأن الهدم سهل، والبناء صعب، و(لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ) كما في الأثر.
وأول النجاح نجاح المرء في إدارة ذاته، تعلماً وعبادة وصلة للقرابة وأداء للحقوق، والتزاماً بالأخلاق مع العدو والصديق.
والكثيرون يستطيلون هذا الطريق، فتغلبهم نفوسهم أحياناً، ويرون الأمر أعجل من ذلك.
أو يعجزون عن إدارة عقولهم بما تقتضيه الشريعة المنزلة؛ فيقعون أسرى هوى خفي، غلفته نية طيبة، ثم لم تدع إليه سبيلاً للتصحيح والمراجعة.
وغالب ذلك من النظر العفوي الذي لم تحكمه خبرة الحياة، ولم تشرق عليه شمس البصيرة، ولطالما كمدت نفوسنا ممن يحملون قناعات مشبعة بهوى النفوس، ظاهرها السنة والكتاب، وباطنها معان في القلب تخفى حتى على صاحبها، ومن هنا سماه الأئمة، كشداد بن أوس وغيره (الهوى الخفي)، وكما يقول المتنبي:
لِهَوى النُفوسِ سَريرَةٌ لا تُعلَمُ
عَرَضاً نَظَرتُ وَخِلتُ أَنّي أَسلَمُ
إنه ليس من حق المرء أن (يستقيل) من الحياة لأي سبب كان، ولست أعرف ـ والله ـ معنى لمسلم ينفذ عملية انتحارية؛ يذهب هو ضحيتها وقتلاها من إخوانه المسلمين!
اللهم إلا تلبيس الشيطان وتزيينه، ورخص الحياة التي ما هي على المسلم برخيصة، وهي مزرعة الآخرة، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير الناس فقال: (مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ)، رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
وهيهات أن يفرط فيها المسلم بتغرير أو مخاطرة، ثم مدارج النجاح أمامه في دراسة يجتازها، أو تخصص يتقنه، أو تجارة في حلال، أو مشاركة في تنمية، أو مسابقة إلى خير.
وقد يسبق هذا أو يتلوه بناء أسرة صالحة، تمناها الأنبياء والمرسلون وسألوها ربهم تبارك وتعالى، وتوسلوا إليه بأعظم الوسيلة أن يهبهم أزواجاً وذرية صالحين، وهل الأمة إلا هذا وذاك؟!
والذين يحلمون بالحصول على كل شيء، ينتهي بهم المطاف إلى خسارة كل شيء، فالسنة الربانية صارمة وحاسمة، لا تحابي أحداً، ومن هذه السنن: «لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ü وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا»(النساء: 123، 124).
الكلام الطيب طيب، والنية الصالحة صالحة، ولكن الحياة أعقد من هذا وذاك، والتطلعات تصبح أحياناً تمنيات، يقول عن مثلها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: «إِيَّاكُمْ وَالأَمَانِيّ الَّتِي تُضِلُّ أَهْلَهَا» صحيح مسلم.
وعلى العاقل أن يجرب كيف يستطيع تغيير أو تحويل شيء من طبعه أو عادته المألوفة، في مأكل أو مشرب، أو ملبس، أو قول، أو نوم، أو غير هذا,,, ليجد من صعوبة النقل، وحنين النفس إلى مألوفها، ومنازعتها إليه الفينة بعد الفينة، حتى إنها ربما عادت واستسلمت لما كانت عليه، وتركت المجاهدة، والذين يحاولون ما يسمى بالريجيم أو الحمية يدركون هذا جيداً!
هذا، وهو قرار خاص منك وإليك، لا يداخلك معه أحد من الخلق، محدود داخل ذاتك، ومن الحيثية النظرية فلا عقبات أمامه.
هذا وهو أمر يخص الفرد، فكيف بحمل الأمة بعامتها وخاصتها شيبها وشبابها ورجالها ونسائها على المحمل الصعب وإركابهم متن الشطط وهم مهمومون بلقمة العيش، وأمن الطريق، وجرعة الدواء! وهذا كله من المصالح العامة التي جاءت بها الشريعة وجعلتها من المعاني الفاضلة وليست أمراً مرذولاً في سنة الله.
فإذا كان الأمر مشتركاً- ولو بين زوجين فما فوق- كان الأمر أشد وطأة، وأكثر تعويقاً,,, لوجود أطراف ظاهرة تمانع فيما تريده أنت، وكلما اتسعت الدائرة زادت هذه الأطراف نفوذاً وتأثيراً؛ لأنها تجاهد في نقيض ما تجاهد أنت لتحصيله، وهذه سنة (المدافعة) كما قال سبحانه: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ü الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ» (الحـج: 40، 41).
إن مثل هذه الأعمال تعطي لشخص عادي أن يجتهد في قضايا كبرى للأمة، يدري كل أحد بالضرورة أن فيها من التقاطعات والتشابكات والأبعاد ما لا يستقل بفهمه أولو الألباب والنهى من أكابر الأئمة فضلاً عن غيرهم، وإنما يدركه: «الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ» فحسب.
واليوم لا يمكن فصل قضية ما عن امتداداتها، فقد تكون هي في الأصل قضية اجتماعية، لكن لها أبعادها السياسية، ولها آثارها الاقتصادية، ولها تداعياتها العسكرية، ويظل (الإعلام) وعاءً مؤثراً في تكوين الكثير من القضايا، وهو لسان العصر الذي يفترض أن يتذرع به المصلحون في بيان الحق: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (إبراهيم:4).
والخيار الجاد اليوم هو خيار العمل المنتج البناء في الإصلاح والتنمية والدعوة، وهي قنوات مفتوحة في الجملة، وفي ضمنها عقبات جسام وتحديات عظام، أولاها من داخل النفس باستطالة الطريق والرغبة في الحسم، إذ لا يرضى قوم أن يكونوا طرفاً مشاركاً، لأنهم يريدون أن يكونوا هم الأطراف كلها، كيف لا,,, وهم يتحركون وينطقون باسم الشريعة فيما يتوهمون.
ثم عقبات الفشل العادي يعرض لكل أحد، ليكتسب من ورائه الخبرة والممارسة.
ثم تحديات الخصوم، وأعترف أنها قاسية، وغير شريفة في كثير من الحالات لكن لابد من مقاومتها بالصبر والجلد، وشيء من الإعراض.
والقوم في أوائل اندفاعاتهم محتدمون إلى حد تصبح المخاطبة فيه نوعاً من العبث,,, لكن الكسرات المتلاحقة قد تمنح فرصة لبعض من تشربوا أفكاراً خاصة في ظروف معينة أن يعيدوا النظر في مآلات تلك الأفكار ونهاياتها ومخرجاتها لصالح الأمة,,, ماذا تكون؟
وبالتالي يتعين على رجال العلم والدعوة أن تكون التربية على محاذرة هذه المسالك جزءاً من جهودهم الدؤوبة في حلقات الدرس والتعليم والتحفيظ، وفي مناسباتها الكثيرة، ليكون هذا جزءاً من برنامج الرعاية التربوية للشباب والفتيات في مراحل تعليمهم المختلفة، وفي محاضن تربيتهم المتنوعة بين المدرسة والبيت والحلقة أو المجموعة.
وليس يكفي فيه تنديد أو شجب أو استنكار إعلامي ينتهي في وقته، إن من أرقى نظم الأخلاق في حديث كهذا أن نعتمد لغة واضحة تتجاوز تسجيل صوت أو موقف إلى عمل استراتيجي مستقبلي مدروس.
وإذا كان هناك مجموعات إعلامية متأمركة تحترف الملاحقة والتصنيف والاتهام وصناعة الخصومة، بل ربما تتحول عندها بعض الأحداث إلى احتفاليات مقيتة لمحاسبة المجتمع أو الثقافة أو التعليم أو الدعوة,, فإنه بمعزل عن هذا يجب أن نقرر أمراً، ليس هو بسر، وهو أن العنف قائم في بعض دوائر البناء والتربية لدى الإسلاميين، نحن هنا لا نجادل في وجوده في الطباع البشرية ولا نتردد في وجوده لدى دوائر عريضة مناوئة، بل وبشكل أشد ظلامية، لكننا اليوم في مقام الحديث عن التيار الإسلامي، وأن بعض أنماطه التربوية والسلوكية تؤهل لتشرب تلك الأفكار، أو مجاملتها، وعدم إدراك الأثر الكبير الناتج عنها، ليس من خلال ملاحظة حدث معين فحسب، بل من قراءة المستقبل وتداعياته وآثاره.
ربما تلطفنا في النقد إلى حد المبالغة، رعاية لمنطلقات ومقاصد نظنها حسنة، فأعطينا رسالة غير جيدة للآخرين.
إن أصحاب الخطاب الإسلامي هم الأوفر حظاً والأقدر على حصار فكر التكفير وتداعياته، بحجة الكتاب والسنة والأثر وصريح أقوال الأئمة والعلماء، وإعادة تفهيم فقه المقاصد والمصالح والأخلاق، وليس أن يصرخ الفتى بنص يوافق ميله ثم يمضي فيه دون أن يربطه في سياقاته ونظائره.
احتج علي أحدهم بآية: «وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً» على مشروعية انطلاق شبابنا إلى العراق.
فقلت له: «وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ,,,,» أفكنت تصلي في وقت النهي مثلاً؟
أو كنت تصلي إلى غير القبلة؟
أو من دون طهارة؟
أو قبل دخول وقت العبادة؟
أو لست ترى الصلاة مع الجماعة؟
فلم تكون منفرداً في قرار ذي خطورة,,,!!
هداك الله وهدانا إلى سواء السبيل والحمد لله على كل حال.
هذا مقال للدكتور سلمان العودة نقلناه لكم لنستفيد من قلم
هذا الشيخ الجليل حفظه الله سبحانه وتعالى ورعاه 0
المفضلات