[align=center]
كبرتِ يا ابنتي، و ما أزال أراكِ الطفلة المدللة.. ما زلتُ أشتاق لكِ كما يشتاق الليل للقمر.. مازال ساعداي متلهفان لاحتوائكِ بين ضلوعي.. لأحكي لكِ حكاية تنصتين لها بكل اهتمام.. تلتهمين كلماتي قبل أن أنطقها.. ثم تنامين كالملاك في أحضاني.
كبرتِ يا ابنتي و صرتِ صورة أخرى لامرأةٍ أحببتُها.. وضعتكِ و رحلتْ إلى الأبد.. لتجعلني أسير تلك الصورة.. ليس بإمكاني التخلص منها و لا مشاركتها صورة أخرى.
عرفَتْ و هي الحاضرة الغائبة أنها تكبلني بقيودها.. و تزيدني يوما بعد يوم حبا و هياما بها.. عرفتْ كيف تواريني معها التراب.
كبرتِ يا ابنتي و صدى ضحكاتكِ يتردد في هذا البيت.. بكل البراءة تطلقينها.. و بكل السذاجة أتلقاها.
شعركِ شلال مياه.. عيناكِ البحر..
بكل ما يحمله من أهوال و أسرار.. كل ذلك الجمال أقرؤه في عينيكِ.
كبرتِ يا ابنتي و عليكِ بت أخاف من تصاريف الحياة.. من أن يخطفكِ مني هتلر.. من أن يأسركِ قيصر - قيصر القرن الحديث -.. من أن تخوضي الحياة.. فتهيج الريح.. و تتلاطم الأمواج بسفينتكِ.. فتتحطم أشرعتها..
تغرقين و أنتِ من لا تعرف السباحة.. و يغرق قلبي معكِ فأموت من جديد.
جاءني صوتكِ كأروع سمفونية سمعتُها.. لو وطأت أذنَيْ بتهوفن لقام من قبره يعزف على نغماتها أعذب لحن عرفه الوجود.. جاءني صوتكِ مكابرا ليخرسني ربما إلى الأبد..
- من قال إني أريد العيش في هذا البيت معك ؟
- ألا يثير هذا البيت زوابع الحنين لكِ ؟ ألستِ أول و آخر طفل يسكنه ؟ ألم تمشي أولى خطواتكِ على تلك السجادة فيه ؟ أليس هذا البيت أمكِ ؟
- كفى أوهاما يا أبي.. إن هذا البيت لا يثير في نفسي نسمة حنين.. هو لم و لن يكون أمي.. فهناك - في القبر - أمي ترقد.. لا يثير بي هذا البيت سوى شعور بالعار.. بالبؤس.. بالفقر ، نحن يا أبي لسنا نعيش أيامكَ.. نحن نعيش أياما فيها المال هو لغة الحياة.. و من يخاطبكَ بغير هذه اللغة فما عليك سوى أن تمرغ وجهه في التراب و تمضي من دون التفاتة إلى الوراء.. فهو لا يستحق حتى تلك النظرة.
لماذا انعقد لساني عن الكلام ؟ أحقيقة ما أسمعه ؟ ليس غريبا ما تقولينه بقدر ما هو غريبٌ أن يصدر عنكِ.. لماذا لم أنهض لحظتها لأصفعكِ لأول مرة في حياتي ؟
أتراه الخوف من فقدانكِ ؟
لماذا أسمع صوت العندليب غراباً ينعقُ.. يزعجني حد الصمم ؟ لماذا يتحول ذاك الوجه الملائكي إلى وجه شيطاني مريع ؟
أعمى كنتُ حين شبهتكِ بامرأةٍ كنتِها منذ لحظات.. نعم.. كنتِها.. ألم يقُل همنجواي على لسان سنتياجو في روايته الشيخ و البحر : يا سمكة كنتِها ؟
فها أنا ذا أقولها لكِ.. فهمتُ الآن ما خالج ذاك العجوز من حزن و ألمٍ اعتصر فؤاده لفقد سمكة طالما كانت حلمه.. لم ينَلها ببساطة و لذا قاتل حتى لا تذهب أيضا ببساطة.. لكنه - وفي النهاية - لم يحصل منها سوى على العظام.. فيا ترى تشابهت مأساتنا لهذا الحد ؟
أتراني الآن أفعلها يا سهام ؟ أم تراكِ تقولين الحقيقة ؟ أتراكِ بتلك اللغة تتحدثين ؟
لا.. يا سهام، أنا لست أفهمها.. هل تراكِ تعلمين أن ذاك الرجل هو أنا ؟ فهل عساكِ أن تمرّغي وجهي في التراب ؟ ماضية من غير التفاتة ؟ متناسية أن في عروقكِ يجري دمي، و أنكِ ابنتي ؟
أم أن لغتكم لا تحمل في طياتها مفردات للأبوة.. للمحبة.. للعاطفة.. للصدق ؟ كل ذلك مازلتم لم تعرفوه.. فهل أمرغ وجهي في التراب نيابة عنكِ؟
الآن أذكر تساؤلكِ بين أحضاني.. بكل البراءة.. بكل الدهشة تسألين:
- لماذا يقتلُ البشر بعضهم بعضا ؟ ألم يُخلَقوا إخوانا ؟
يومها لم أعرف كيف أجيبكِ.. و بأي منطقٍ أشرح تلك المجازر..
و ها أنتِ اليوم تجيـبـين.. فيا فلذة كبدي ماذا تقولين ؟ [/align]
[align=center]أختكم
الدهور[/align]
المفضلات