هذه الرسالة وصلتني من خارج الوطن
أرجو ممن له صله بأهل ماجد توصيلها لهم
مشكوراً ومأجوراً إن شاء الله تعالى
رحمك الله يا ماجد
كانت آخر رسالة جوال بعثها لي عن الظلم والقهر الأمريكي لإخواننا في العراق إبان الهجمة الشرسة الأخيرة على الفلوجة ، وآخر مكالمة قبل أسابيع كانت لمجرد السلام والسؤال عن الحال ، لكني الآن عرفت أنها مكالمة وداعية ، ونهاية لحوار طويل بيني وبينه ، لازلت أذكر قبل أكثر من عام يوم أن سلّمت من صلاة المغرب في المسجد المقابل لبيته فرأيته ورآني ثم تبسم كالعادة ، وأشار إلي أن لا تذهب ، وبعدما انصرفنا من المسجد عرض علي أن أدخل بيته فاعتذرت له لكنه ألحّ علي أن أدخل معه نتقهوى ونسولف ، فلم أتمكن من الاعتذار أكثر ، كان الجو بارداً فقرب الدفاية وقدم التمر ، ثم القهوة ثم الشاي وغيره . . كانت حرقته على الدين وغيرته على محارم المسملين هي الموضوع الذي يميز حديثه طوال الوقت ، كنت أقول له : إن التزامات الإنسان الخاصة لابد أن تكون نصب عينيه ، والذمة المشغولة بشيء من العقود والمعاملات البشرية لا يمكن أن تكلف بتكاليف إضافية فوق طاقته ، فإذا رغب الإنسان في الانتقال إلى ذمة أخرى برئت منه الذمة الأولى ، ثم يشق على نفسه وعلى من حوله . . فقال : أليست ذمة المسلمين واحدة ؟ قلت : بلى هي كذلك في الأصل ، لكنها اليوم ليست واحدة ، بل كل حزب بما لديهم فرحون ، وتفرقوا شيعاً فكل قبيلةٍ . . فيها أمير المؤمنين ومنبر ، قال : أنا أريد أن أسأل عن الذي يذهب لمقاومة الظالمين وطرد المغتصبين من الأمريكان في العراق ولا يريد إلا ما عند الله . . هل هو مخطئ ؟ قلت له : ليس مخطئاً ، لكن عليه أن يتحمل عواقب تصرفاته وقراراته إذا رجع وترتب على مخالفته للمعاملات التي بينه وبين حكومة بلده فلا يلوم إلا نفسه ، وهو غير مكلف ابتداء ، والله تعالى لا يؤاخذه بتقصيره إذا عجز ، قال : وإذا ما رجع ؟ لأنه ما راح أصلا وفي نيته الرجوع ، قلت : الله ييسر له ما يريد ، وعسى الله أن يعينه . .
ولما قالوا إن ماجد الهقص ذهب إلى العراق ، قلت : سبحان الله الذي جعل في نفس الإنسان هذه الإرادة التي تصنع العجائب ، وصارت صورة ماجد تأكل معي وتشرب ، أحسست بشعور غريب لا يوصف ، فكتبت له رسالة من عشر فقرات ، وكنت أبحث عن الوسيلة المناسبة لإيصال الرسالة وهو في العراق ، هل يطّلع على الإنترنت ؟ هل يمكن أن يوصلها أحد من إخوته ؟ كيف أصل إليه ؟ . . (ولعلي أنشر تلك الرسالة في وقت لاحق إن شاء الله ) . . أرجأت الموضوع أياما حتى جاءني خبر استشهاده . . قبل أن يقرأ رسالتي . . فرحمه الله وبيض وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، لقد حقق مناه ، وبلغ مراده ، والله وحده المستعان وهو المرجو أن يتقبله عنده من الشهداء ، وأن يلهم أمه وزوجته وبنته وإخوانه وأحبابه الصبر والسلوان . . وأن يبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه ، وأن يلحقنا به في الفردوس الأعلى إنه سميع قريب مجيب . .
مضى الآن أكثر من ثلاثة أيام بلياليها وطيف ماجد لا يفارق مخيلتي ، حتى في صلاتي ، لا يمكنني أن أغمض عيني عن صورته التي تتردد وشريط حياته الطويل القصير منذ أن كنت أتابع مباريات الفسحة في المدرسة كان ماجد ملفتاً للنظر بسرعة حركاته ومهاراته في اللعب رغم صغر سنّه ، خفة روحه التي كانت تجذب حوله من يعرفه ، يمتلك جاذبية غير طبيعية ، لقد صارت الأخبار التي أسمعها هذه الأيام في الصباح والمساء أوأقرؤها عن الطغيان الأمريكي في العراق ، والفساد في الأرض ، وإهلاك الحرث والنسل تجدد جرح ماجد من جديد ، وذكراه تستدعي الألم العريض في العراق وفي كل بلاد المسلمين ، فلا أدري هل جرح ماجد يجدد جراح المسلمين في ذاكرتي ، أم جراح المسلمين تجدد حزني على ماجد ، ويستمر هذا الشريط مستعرضاً أحلى الذكريات التي بقيت ظلالها تلوح عبر السنوات ، حتى آخر مرة قابلته في زواج أخيه أو في عيد الفطر ، فيارب لا تحرمه رضاك والفوز بجنتك والحور العين يا أكرم الأكرمين . .
يا الله أشهدك أنه تعلم وتربى على الخير فنشأ رجلاً صالحاً يسعد به كل من حوله ، لقد أخذ الرجولة والشهامة والجود والطيب من أهله وجماعته ، وأشهدك أنه قد قضى سنوات عمره في تعلم كتابك الكريم ودراسة علم العقيدة والتوحيد الذي هو أشرف علم ، حتى تخرج وصار يعلم الناس الخير والدين ، اللهم إنه لم يكن في حال من أحواله ولا في مرحلة من مراحل عمره أحسن منه في آخر حياته ، اللهم إنه لم يكن جاهلاً ولا مقصراً في حقك ، وإنه لم يقصر في البحث عن مرضاتك حيث كانت ، فهو من أهل العلم والدين وإخوانه من أهل العلم والدين ويحبون أهل العلم والدين ، هكذا أحسبه وأحسبهم وأنت اللهم الحسيب . . وأنا أكتب هذه الكلمات الآن بعدما فارقنا وانتهى الحوار بيني وبينه وكلي حياء من الله أولاً ، ثم من ماجد الذي أحرجني وأحرج رجال الأمة كلهم من بعده . . فاللهم تقبله عندك في الشهداء ، وألحقنا به يا رب العالمين . .
وداعـاً أيها الماجـد
استقبليه وألبسيه من الحرير بلا نكير
استقبليه وناوليه ألذ أصناف الخمور
استقبلي البطل الشجاع الفارس الحرَّ الغيور
استقبليه كما تنير الشمسُ في وقت البكور
استقبلي روحاً غدت في الجوفِ من خُضرِ الطيور
استقبلي الصقرَ الأبي إذا تنافست الطيور
استقبلي الأسد الهصور ، وليس يكفيه الزئير
وضع الفؤادَ على جناحِ الموت والعزمُ جَسور
استقبلي جسداً من الأشلاء غضّاً ذا عبير
استقبليه وأجلسيه على الأرائك في القصور
في قصره الذهبي تعلوه المهابة والحبور
ويطوف غلمان له كلآلئ البحر بُدور
استقبليه فإنه أهلٌ لحسنك والعطور
يستأهل الجود اليسير فكيف بالجود الكبير
غنِّي له وتغنجي وتمايلي قرب السرير
فلقد سعى نحو السعادة باذلاً أغلى المهور
لاهُمَّ إني شاهدٌ ، ولديك أنت حشا الضمير
أنا شاهد أن النفير لأجل رضوان الخبير
ورضاك يا ربي مناهُ ، وأنت أعلم بالصدور
وجنانك الفردوسُ لا يرجو سواها من مصير
ما كان يرجو سمعةً تبقى ، ولم أشهد بزور
بل كان ماجدُ صادقاً والله بالقلب البصير
زوّجهُ يا ربي بِحُورٍ ناعماتٍ كالزهور
واجمع به أحبابه من بعد بعثرة القبور
يا صاحبي كل النفوس تسير ناحية القبور
يا صاحبي اخترت الشهادة فلتفز يوم الحبور
يا ماجدُ اسعد بالحياة بظل موفورِ الأجور
يا ماجدُ ارحل عن حياةِ الهونِ والعيشِ الحقير
يا ماجد الجبلان عنك يسائلان ؛ متى يزور!
ما عاد يظهر ـ في دروب (أجا وسلمى) ـ أو يسير
قد كنتَ تكرهُ أن تغيبَ عن الديار ولو شهور
فلقد رحلت بلا رجوع للربوع مدى الدهور
لا تكرهي يا أم ماجدَ موتَه وهو صغير
لله ما أعطى ، وما مات الحبيب على فجور
فاستغفري وادعي له ، إنّا إلى الله نصير
قولي وداعاً ، واللقاء بجنة المَلِكِ القدير
أبو سلمان
ربيع الأول 1425هـ
اللهم لا تحرمنا أجرهم
ولا تفتنا بعدهم
واغفر لنا ولهم
اللهم آمين
تحيات أخوكم ومحبكم بالله
طاب الخاطر
25 / 3 / 1425هـ
المفضلات