الليلة الأخيرة
كان اليوم يوم الخميس ، وكان صائماً ، طرقنا مكتبه قبيل صلاة العشاء ، وكنا قد فارقناه قرابة لسنة ، ولم تكن لنا به صلة قوية ، وكنت أتوقع أن يكون قد نسينا ، لكنه عندما رآنا كبَّر فرحاً بلقيانا ، جلس إلينا ليسمع أخبار المجاهدين في ولاية هرات ، حدثناه عن مآسيهم وفقرهم وقلة أسلحتهم
انقبضت أسارير وجهه وعلت سحابة من الحزن .. قال لي : لنذهب إلى رجل من أهل الخير لعله يسمع منك فتجود نفسه بشيء
ذهبنا إلى ذلك الرجل لنجد عنده مجموة من المشايخ اذكر منهم : الشيخ عبد المجيد الزنداني والشيخ موسى القرني والشيخ عثمان عبد العزيز أمير الحركة الإسلامية في كردستان وكان معنا أحد مشايخ (هيرات) خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وكان يتحدث العربية ولا يحضرني الآن اسمه
وعند دخولنا كان حديث القوم يدور حول بعض القضايا الأصولية والفقهية ، ثم تطرقوا إلى مشكلة الخلاف الناشب بين رباني وحكمتيار ، وكانت هناك مساع للصلح بينهما قد بدأت على أيدي بعض العلماء والمجاهدين
وجه الشيخ عثمان – في تلك الجلسة – كلاماً حاداً إلى الشيخ عبد الله عزام حول مجة الجهاد ، فقال له : لماذا لا تنشر أخبار مجاهدي كردستان وشهدائها ؟ وكان الشيخ يبتسم ويرد عليه باحترام وتوقير ويقول له : هذه المجلة خاصة بقضية أفغانستان ثم اتصل الشيخ عثمان بأحد قيادات الأكراد فتكلم معه ساعة ثم ناول الشيخ عبد الله الهاتف لعله يوصيهم بشيء فذكرهم بتربية الشباب والاهتمام بقيام الليل وذكر الله والإقبال عليه ثم وصاه بتفقيه المجاهدين في مذهب الشافعي – وذلك لأنه مذهب الأكراد – فاقترب الشيخ الزنداني من سماعة الهاتف ورفع صوته قائلاً : والمذاهب الأخرى
طلب مني الشيخ أن أحدثهم عن مشاكل المجاهدين فيهرات فتحدثت قليلاً ثم تكلم الشيخ وحث على الأنفاق
قال الشيخ الزنداني : دعنا الآن من هرات ومشاكل هرات ، هناك أمر أهم وأكبر ألا وهو إتمام الصلح بين رباني وحكمتيار فقم الآن وخذ ورقة الاتفاق واذهب بها إلى رباني ولا تخرج من عنده إلا بعد أن يوقع عليها
ابتسم الشيخ عبد الله وأخذ الورقة وقام وكانت الساعة حوالي الثانية والنصف صباحاً وقال لي وصاحبي الهروي (ابقيا الليلـة هنا حتى نلتقي غدا إن شـاء الله) ولكن الله لم يشأ أن نلتقي .
كان وجه الشيخ مشرقاً ، وثغره باسماً كأنه مشتاق دقت ساعة لقياه بمحبوبه وفي تلك اليلة سمعته حوالي ثلاث مرات يقول [اللهم إنا نسألك الشهادة في سبيلك] . واستجاب الله دعاءه في تلك الليلة المباركة إن شاء الله
وفي اليوم الثاني وهو يوم الجمعة (الدامية) كنت جالساً مع صاحبي الهروي الذي كان مبهوراً بشخصية الشيخ عبد الله عزام وحرقته واتعابه نفسه في ذات الله ، وكان يقارنه بآخرين قائلاً [الجميع يعملون لكن لا أحد كالشيخ عبد الله عزام] ثم قال : [إن الأعداء لن يتركوه .. يقتلونه؟] وما هي إلا دقائق معدودات فإذا صاحب البيت قادم يقلب كفاً بكف وهو يبكي ويقول [السيارة تمزقت قطعاً .. قتلوه ..] هرعنا إليه زعين متسائلين : ما الذي حدث ؟ قال باكياً : قتلوه .. قلنا من ؟ قال : الشيخ عبد الله عزام
دارت بي الأرض وغمغمت بالاسترجاع كأني بين النائم واليقظان وأيقنت أن علماً من أعلام الدعوة والعلم قد رحل وركناً من أركان الجهاد والعبادة قد انهدم ، ورجلأً من رجالات التربية والتوجيه قد ودَّعنا كان الفراغ عظيماً ، والفجوة كبيرة والخزق واسعاً
خط قلمي رسالتين إلى شيخين معروفين على مستوى العالم الإسلامي مشهورين بالاهتمام بقضايا المسلمين ليقوما بملء هذا الفراغ وتلكم الفجوة ، وفي ظني أن الرسالتين وصلتا ، ولكن الرد لم يصلr
وبهذه المناسبة .. وبعد مرور عشر سنين على رحيل الشيخ – أجدد رسالتي مفتوحة إلى كل من حمَّله الله أمانة العلم ووراثة النبوة ، أن يتقدموا كما قال الشيخ في وصيته [لقيادة هذا الجيل الراجع إلى ربه ، ولا تنكلوا ولا تركنوا إلى موائد الطواغيت فإنها تميت القلوب وتظلم الأفئدة وتحول بينكم وبين هذا الجيل
ونقول للشيخ نم قرير العين أيها البطل
أكلت مفاخرك المفاخر وانثنت
000000000000عن شأوهن مطيُّ وصفي ظلعـاً
وجرين جري الشمس في أفلاكها
000000000000فقطعن مغربها وجزن المطلعــا
لو نيطت الدنيا بأخرى مثلـها
000000000000لعممنها وخشين ألا تقنعـا
فإن أرض أفغانستان كانت معطاءة أكثر مما كنت ترجو فها هي تلقي إلينا بفلذات أكبادها الذين توجوا جهاد بلادهم بأحلام أبنائه وأنصاره على حد سواء ورفعوا هاماتهم عالياً في زمن الخنوع
ونسأل الله لهم الثبات والحفظ من مكايد الأعداء
الشيخ أبو المنذر الساعدي
المفضلات