قانون الجنتلمان
بقلم : فهد الأحمدي - جريدة الرياض
كان لدي صديق في امريكا يتنقل بكثرة بين سكن واخر. وكان كلما استقر في شقة جديدة يتصل بشركة الهاتف (ويعطيهم اسماً مزوراً) ويطلب ايصال الخدمة اليه. وحين تسري الحرارة في الهاتف يتحدث به لاشهر حتى تنفصل الخدمة لعدم التسديد.. وبعد يومين يعاود الاتصال بنفس الشركة (كساكن جديد وباسم مختلف) فتعود الحرارة حتى تنقطع لنفس السبب.. وذات يوم دخلت شقته ولم يكن موجوداً فرأيت اخر فاتورة فحاولت قراءة الاسم عليها.. غير ان الاسم الجديد كان صعباً ومعقداً بحيث لم استطع قراءته من كل الجهات وكان تحديداً (Wallaah maadfaa) واثناء محاولتي حل احجية الاسم دخل المنزل فبادرته بالسؤال: ماهذا الاسم الذي اعطيته لشركة الهاتف!؟ ابتسم بخبث وقال: هل قرأته؟ قلت: حاولت ولم انجح. قال: اخبرتهم ان اسمي "والله ما ادفع" ومع هذا شبكوا لي الحرارة مجدداً!! .
هذه القصة تعد نموذجاً لتعامل الشركات هناك على اساس الثقة العمياء بالمواطن؛ وهذا الامر لم نفهمه حينها وكنا نعتبره غباء امريكياً صرفاً (اذا كيف لايطلبون اوراقاً رسمية او يتثبتون من هوية المستخدم الجديد!؟).. ومالم ندركه وقتها انهم يتعاملون مع عامة الناس على انهم شرفاء لايسرقون ولايخدعون ولا يستغلون ثقة الغير. فالقوانين هناك وضعت على اساس التعامل مع " المواطن الجنتلمان" و ان معظم الناس شرفاء لايلجأون للغش والتلاعب.. صحيح ان هناك افراداً يستغلون حسن النية التي بنيت عليها تلك الانظمة، ولكنهم مهما كثروا يعدون (حالات استثنائية) لايجوز تعطيل مصالح الناس من اجلهم او زيادة تعقيد الاجراءات بسببهم.. وهي على اي حال حالات شاذة تحسب ضمن "الخسائر المتوقعة" وتحول ملفاتهم للبوليس بشكل دوري! ..وعلى العكس من ذلك توضع القوانين في الدول النامية على اساس "المواطن الحرامي" وانه محتال حتى تثبت براءته؛ لهذا السبب يتم تكبيل المراجع البسيط بشتى انواع التعهدات والغرامات والتواقيع واحضار كم هائل من "الشهود" و"الكفالات" وعناوين الاقرباء والجيران...!!! والمشكلة اننا بهذه الطريقة - وبصرف النظر عن الجانب الاخلاقي - نزيد من تعقيد الاجراءات ونحد من ازدهار الاعمال وتطور الخدمات (فشركات الهاتف مثلا لو حملت هم صديقي وامثاله لما عملت على الاطلاق)!!؟
وكي تكون المقارنة اكثر وضوحاً سأخبركم بموقفين متناقضين تعرضت لهما شخصياً؛ الموقف الاول حين انتهيت من دراسة اللغة في انجلترا وفقدت الشهادة التي اعطيت لي. اذكر حينها انني ذهبت لمدير المعهد لعرض مشكلتي (وكان يهودياً يدعى مارك ليندا).. ولان سكرتيرته لم تكن موجودة قام بنفسه الى مكتبها وسحب شهادة فارغة من كرتونة الشهادات وملأ الخانات المطلوبة ثم وضع الاختام عليها وسلمها لي (خلال دقيقتين فقط) وقال بابتسامة عريضة "اي خدمة؟".. حينها تذكرت بحرقة كيف فقدت في السعودية استمارة الثانوية وعجزي عن استخراج بديل لها؛ فقد راجعت ادارة التعليم فطلبوا مني احضار: اعلان في جريدة، وشهود، وتعهد، وغرامة، ومراجعة المدرسة ومراجعة الوزارة بالرياض.. وحين استكملت كل ذلك اتت الطامة الكبرى: فقد طلبوا احضار افادة من الدفاع المدني او الشرطة او المباحث بأنني فقدت الاستمارة. حينها غلى الدم في عروقي وقلت للموظف: اتق الله يارجل ما دخل الدفاع المدني او المباحث في استمارة الثانوية. قال وعلامات التشفي في عينيه: لابد من شهادة رسمية بأن منزلكم احترق او انسرق او تعرض للاقتحام وعلى اثره اختفت الاستمارة. حينها رميت الاوراق بوجهه وغادرت المكتب بغير رجعة! القضية باختصار؛ لنضع انظمتنا على اساس "الرجل الجنتلمان" والحالات الاستثنائية تحول للاجهزة الامنية.. فبطريقتنا هذه يضطر المواطن فعلاً الى الكذب والخداع!
المفضلات