المعذبون في الأرض . .
by
, 05-05-2010 at 17:29 (12034 المشاهدات)
أقسى ما سمعت به مسامعي من أحوال حياة غيري..
هو ذلك الموقف الذي كبّل لساني وأعجزه دون أن يتفوه بكلمةٍ أو حرفٍ في وقتها..
وأخذ حالتي بحالٍ غير الحال التي أعتدت عليها في حياتي..
موقف رأيت فيه موت الضمائر وانعدام الشيّم والقيّم وتحجر القلوب..
موقف رأيت فيه موت الإنسانية وذهابها عن أنفس أصحابها..
امرأة حكمت عليها ظروفها لتموت مع أطفالها..
دون أن تجد من يأخذ بيدها أو يمد لها يد المساعدة..
ماتت لأنها تبحث عن لقمة عيشها وما يكفي أطفالها
ولكنها لم تجد سبيلاً لذلك غير سبيلها لتحتضن أبنائها وترقد معهم للأبد..
ويكون هذا خيراً لهم من معاناتهم في هذه الحياة القاسية..
رحلت ولم تترك بجوارها غير أجساد أطفالها و ورقةٍ كتبت فيها كلمات لها..
علها تجد في نفس قارئها الأثر الذي يأخذ بنفسه وتدعوا لها بالمغفرة في أمرها..
كلمات كتبت فيها :
مات زوجي ولم يترك لي غير طفلين في بداية عمرهم..
فبدأت أخشى عليهم كثيراً بعد رحيله عنا..
وقد أحتل شأنهم كل تفكيري وانشغالي..
فوجدت في نفسي الفزع والهلع لأمرهم دون أن أفعل لهم شيئاً..
فليس باستطاعتي أن أقدم لهم ما يكفيهم من مآكل ومشرب وملّبس..
حتى نفذت مني جميع السبل فنفضت يدي منها وقلة حيلتي في يومي وغدي..
لهذا أني راحلة معهم إلى السماء إلى الأعلى الذي خلقني وخلقهم
وهو أرحم علينا من أنفسنا وأرحم من هذه الحياة الفانية..
لقد فارقتها لأنني لم أستطع تحمل أنينهم وتوجعهم
دون أن أجد من يعينني على أمرهم وأمري..
تمرّ الأيام وكأنها أكثر قسوة من قساة من بها..
ونحن نتنقل من هنا إلى هناك.. باحثين عن لقمة عيشنا
وتمرّ الليلة أحياناً وتتلوها الأخرى دون أن نضع في أفواهنا
شيئاً يسدَّ ألم جوعنا.. غير أن جارة لنا تزورنا بين حين وأحيان
لترمي لنا ما أنعم لها ربها من طعام أو بعض قطع القماش التي لا تريدها..
فكانت زياراتها وانتظارنا لها تهدي من ريبة الجوع فينا وتخفف من ألم أوجاعه علينا..
ولكنها غابت كثيراً وانقطعت أخبارها ولا نعلم عن أيَّ أمرٍ وصلت إليه لتنقطع معونتها عنا..
بقينا نتجول وندور في الطرقات ولم نرى في طريقنا من يحمل إلينا رحمته وعطفه..
وأن بكاء أطفالي يطرق قلبي كطرق المطرقة على ذلك الحديد..
ولا حيلة لي في أمرهم غير بكائي معهم..
وفي هذه الليلة المظلمة والسكون يعم أرجائها
لا أملك فيها غير ضعفي وحزني..
حضنت أطفالي بشوق هائج.. وقلت في نفسي :
أن رحيلنا من هذه الدار أسلم وألطف لنا
من البقاء فيها دون معين يعيننا.. أو راحم يرحمنا..
فليغفر لي ربي على أخطائي وليغفروا لي أبنائي على رحيلهم معي
ولعلي في هذا أكون قد رحمتهم وحميتهم من ظلم غيرهم..
"المعذبون في الأرض"
ماتت تلك الأرواح البريئة مسمومة.. فوجدوا في ذلك السم لذةً
ألذّ من العيش في هذه الحياة..
فاستراحوا في مرقدهم وطاب لهم سكونه..
فوجدوا أن في الموت صمتاً جميلاً..
فأثبتوا أن في رحيلهم خيراً لهم من معاناتهم القاسية والمؤلمة..
فليرحمهم خالقهم ويسكنهم فسيح جناته.. أنهم ما هم إلا أبرياء جار عليهم زمانهم
وحملهم من معاناتهم إلى حتفهم ليكونوا مع الراقدين لا ألم ولا أنين ولا بكاء..
تلك الحكاية هو حال بعض الناس الذين يعانون معانات قاسيه في حياتهم..
ولكن أكثر البشر لا يعلمون...
هي حال واقعية عاشها الكثير.. ولكن نسجها أقرب للخيال..