قال لي نزار قباني [ سلسلة في حلقات حول شاعر الياسمين في ذكرى رحيله الثانية عشرة ]
by
, 02-05-2010 at 04:11 (17201 المشاهدات)
لكل زمن سمة ولكل عصر رجال ، لكل مرحلة ادباءها ، ولكل جيل ميزة
لم يعاصرنا نزار قباني في شعره وأدبه ونثره حتى بلوغ هذه الألفية
لكننا عاصرناه بكل تفاصيل حياتنا
بلغ منا نصف العمر ونحن نتابع بعد رحيله بقية العمر على الارث الضخم
الذي تركه لنا.
الحديث عن نزار الياسمين لا يمكن اختصاره بمقالة ذات حروف معدودة بل يحتاج هذا الشاعر الى مدونات ومساحات لا تمل ذكره .
قد يعترض البعض لأني من عشاق نزار ومن شام نزار وياسمين نزار و البيت العتيق الذي يحبه نزار والقطة الدمشقية ونافورة الماء و الاحساس الوطني الذي يمتلكه نزار
ولكن مهما حاول البعض من تغريب نزار وفصله عن عروبته وبلاده لن ينفصل عنا بسهولة
ولن يتلاشى نزار لأنه آبد كالمعلقات و التاريخ والقصيدة والقضية.
قالي نزار قباني في سلسلة سأبدأها بهذا الحوار النادر قبل رحيله..
فتحت المسجلة ، ووضعت امامي كتاب اسمه الشعر...
ما هي الا لحظات وانا اردد مع فيروزا..
"يا عصفورة الشجن...
مثل عينيك بلا وطن..."
.
.
أحب الجنون ، العب معه كطفل تسرقه أول الليل يد الوثن...
أتعلمون ، عشقي له كعشق أمي لأحضانها حين ارتمي عليها آخر الليل من تعب الحروف...
.
قالها لي نزار.. :
"الشعر هو كلمة السر ، من عرف متى يقولها وكيف يقولها ، استطاع أن يزحزح الصخرة المسحورة ويصل الى صناديق اللؤلؤ والمرجان ، والى الحور المقصورات في الجنان"...
.
والزخات تحب أن تلعب مع السحاب لعبة الجنون ...
أن تزرع أول زهرة برية ليحملها قلبٌ كانت تنتظره مختبئة وراء صخرة رمادية...
.
الإنسان ، له ذوقٌ جميل والتعبير بين يديه أجمل ، فالحيوان لا يهتم بالنجوم ، كاهتمام قلب جنوني بروعة المغارب ولا يمسك الزهرة ذلك الحيوان الا ليفترسها ، لكن جنوننا يضم الوردة ويصنع العطر من رحيقها كما تفعل النحلة في الربيع الأخضر...
.
"أي وهمٍ انت عشت به ، كنت في البال ولم تكن" (رددي يا عصفورة الشجن ، فأنا مثلك بلا سكنٍ ، انما عيناك ايها الجنون هو سكني...)
.
.
"الشعر خنجرٌ ذهبي مدفون في لحمي ، أكره ان يتركني ، ولا أكره ان يذبحني" (صرخها نزار) ، والجنون هو خنجري ... احبه حين يخرقني بحروفه ويقتلني ..
.
.
امسك الورقة ، وامارس القتل الجنوني فوقها ، فتخرج منها إفرازات جميلة ، لم اعهد انها معي تسكنني ، كنزيف الحروف في وسط السماء المليئة بالنجوم تتوالد من شق ريشة خشبية ، قديمة ، ...
.
.
"إن المجانين وحدهم هم الذين يتغذون بحوارهم الداخلي ويعلكون خبز أوهامهم"
"اللوحة بحاجة الى من يراها ، والتمثال بحاجة الى من يلمسه ، والسمفونية بحاجة الى من يسمعها ، أما الشعر فربما كان اكثر الفنون حاجة الى الانسان لأنه مشتبك بلحم الانسان ، بفمه وحنجرته".... (رسمها نزار قباني على جدار أبيض) ...
.
.
ساقول لكم...
الجنون عند الزخات نارٌ ، ونار الانسان لا تموت ، لأنه شرايينه قطرة زيت ، وقطرة جنون ، وقطرة حب...
.
.
جنوني...
موجود في كل مكان ، كل تفاصيل حياتي ، في افراحي ، واحزاني ، فأنا اقدمه عندما استنشق عطر وردة بيضاء ...
عندما اشترى علبة حلوى ، اقدمها لاطفال الحاره عندنا ،
في جنوني تطريزة ذهبية ، لا انها فضية برجوازية..
صنعها لي صائغ الحروف ، قلادة في رقبة طفل بريء...
.
.
هو جرعة جنونية ، غير معقولة في زماننا ، فهم لا يعترفون ببقاياه ، اتناولها في صباحي ، مع كأس شاي خلط بالنعنع الاخضر ، وعلى المساء تحت ضوء القمر ، نتسامر معا.. على اغنية جميلة تقول: أهواك بلا أملِ ، نعم انها فيروز تطرب ليلي..
.
.
مجموعة صور ، في كتاب طبع عليه باحرف سميكة ، لا لون لها ..
صورٌ من هذيان الجنون يا لؤلؤتي ... اتدركين ان للجنون ايضا هذيانٌ خاص به ...
الم تعلمي ذلك ، اننا نستطيع ان نجعل الجنون يهذي كالاطفال ، فيصرخ في وجوهنا ، يطالبنا بحضنٌ ، يدفئ حروفه ..
.
.
اصطحبت مرة كاميرا جدي العتيقة ، وذهبت اجر رجلاي بعربتي ، التقط الازهار واشم رائحة الارض بعد عطاء السماء لها بزخات طردت عنها الغبار..
دهشت كثيرا ، حين وقف امامي جنوني ،
فقتل له: قف ، لحظة ، دعني آخذ لك صورة فوتوغرافية..
دعني اعلقها على حائط حزني في غرفتي المظلمة..
قف .. قف .. قف ، ارجوك...
فحلق عاليا.. وقال لي:
ليس للجنون صورة فوتوغرافية معروفة ، فأنا هنا على سطح بيتكم ، وهناك على سطح جيرانكم ، فوق صحن الفقير.. تحت طاولة الغني..
وعلى الشوارع يرسمني اطفال مشاكسون...
لا احد يعرفني ، ولا انا اعرف نفسي ..
فلا جواز لي ، كالطير ، الا ان الطير يقتل ...
وانا.. لا صورة لي فاذهبي عني الان..
.
.
جنوني ،
تركيبة بيولوجية ، كيماوية ، وتشريحا لرماد جسد ، احترق الحروف داخله...
حين حاولت ان تصل للشمس ، لتهديها الى اغلى نبضاتها ، فاحترقت عند اول المسافات ،
واكملت طريقها بمصاحبة جنونها ، علها تصل الى باب المشاعر والانفعالات داخل سرب من الحمام...
لكنها احترقت ، وجمعت رمادها في قارورة ، وادخلتها النهر ليصل الى شاطئه...
.
.
جنوني لي وحدي ، يملكني واملكه
كرقصة افقد بها توازني ، على لغة ليس لها حروف ساكنة ،
رقصة بكل اجزاء النفس ، وخلجاتها الواعية واللاواعية ،
بكل طبقاتها المنكسرة والمستتره ،
بكل احلامها الممكنة وغير الممكنة ،
بكل خطوة ، معقولة وغير معقولة ،
فهي جنوني...
من قـلـب ذلك القلم الحزين